رغم أنه كُتبت العديد من الروايات والشهادات والقصص والقصائد والمسرحيات وعُرضت العديد من الأفلام الوثائقية والدرامية عن الأحداث التي عصفت بسوريا بشرا وبيوتا ومدنا منذ خروج المواطنين العُزّل إلى الشوارع في ربيع عام 2011، والمطالبة بالإصلاحات الديمقراطية وتفكيك القبضة الأمنية حول رقبة كل مواطن سوري، وصولا إلى المطالبة بإسقاط النظام السوري فإن هذه الحكايات يبدو أنها بلا نهاية أو أنها لن تنتهي، وسيُكتب وسيُعرض الكثير منها حتى بعد سنوات كثيرة، وهو ما حدث في كل الآداب العالمية التي وصفت الخراب الذي حل ببلد ما بسبب الدكتاتورية أو الثورات أو الحروب.
التفاصيل الكبيرة
ربما ما يؤكد ذلك هو كمية العذابات التي حصلت في كل المدن السورية تقريبا، وبالتالي تعرّض مئات الآلاف لتجربة هذه العذابات القاسية، والتي لا يمكن أن تندمل جراحها بسهولة، والتي يُمكن لها أن تفجّر موهبة الكتابة لدى الكثيرين، وكذلك تلقي المسؤولية على الكتّاب الذين كانت لهم إصدارات وكتابات سابقة، لكي يُعطوا قيمة كبيرة حتى للتفاصيل الصغيرة التي تتحول بالكتابة إلى تفاصيل كبيرة وثقيلة.
لذلك تأتي رواية أو نوفيلا “داريا الحكاية” الصادرة حديثا عن دار ميسلون للثقافة والترجمة والنشر للروائي السوري المقيم في ألمانيا مازن عرفة (ولد في عام 1955) ضمن هذا السياق.
الفصل الأول من رواية “داريا الحكاية” لا يشي بالمآسي التي ستأتي بعده لكنه يأتي مثل رسم للمكان وجمالياته وعاداته بين البشر والأرزاق وحتى بين البشر ونباتات المكان، فالوصف الافتتاحي لشخصيات الرواية يبدو “طفوليا” من خلال استخدام رموز طفولية، فالأم هي “كرم العنب” والأب هو “حقل القمح”، يجعل أحدنا يفكر بقيمة وحتى بمستوى هذا العمل الروائي، ولكنه يكتشف لاحقا سبب استخدامات الكاتب هذين الوصفين، ولمجموعات نباتية أخرى خلال مقاطع تتحول من التسجيلية والوثائقية إلى الفانتازيا، وصولا إلى الهذيان والكوابيس التي يصنعها الحد الأقصى من العنف والتنكيل والقتل.
عائلة اسمها داريا
تدور الرواية حول عائلة من أب (حقل القمح) وأم (كرمة عنب) وأولادهما وأولاد أولادهما، لذلك يبدو الأمر وكأن الرواية تدور حول عائلة اسمها داريا، ولذلك يُمكن للمرء أن يتفهم استخدام هذه الرموز من الطبيعة، وجعلها تتكلم وتحكي عن نفسها وأهلها وماضيها ومستقبلها، ولكن ذلك لن يستغرق كل الرواية التي تجري أحداثها في 185 صفحة، بل سرعان ما يستلم أشخاص حقيقيون من فروع تلك الشجرة زمام الرويّ، فتصبح الحكاية العامة حكايات شخصية وعائلية تمتد لعشرات السنوات.
واختيار هذه العائلة جاء من قبل الكاتب لأنها عاشت كل أجزاء الحكاية تقريبا، فهي عاشت ماضي الوالدين، وترعرع الأبناء وأحلامهم ورغباتهم، وعاشت بدايات شد القبضة الأمنية والعسكرية، وعيش الحراك والمظاهرات، ونزوح بعضهم من البلدة إلى بلدات أخرى، ثم إلى المنفى الأوروبي، وبقاء بعضهم وانضمامه للجيش الحر، وتعرّض بعضهم للقتل أو التعذيب أو التنكيل.
وهذا يعني أن الرواية يرويها أشخاص متعددون من تلك العائلة، وبحسب دوره في الحكاية، مثل حسن (الابن الأكبر) ومحمد (الابن الأوسط) وخليل (الابن الأصغر) وسمية (البنت الصغرى) وسميرة (البنت الوسطى) ووفاء (الابنة الكبرى) ومن ثم يتدخل أولادهم كذلك في الحكايات، وهؤلاء الرواة يتحدثون وهم يدونون الرواية وكأنهم في جلسة واحدة، في بيت واحد أو في مقبرة واحدة، لذلك تجري الرواية سريعا في الفصل الأول الذي يحمل عنوان “داريا العنب” في شكل مونولوغات مسرحية بين شخصيات متعددة ومشتركة في الحياة العائلية، وهو ما يجعل هذا الفصل شفويا أكثر وأقرب إلى المسرح.
ففي هذا الفصل يروي أحدهم ماضي العائلة وماضيه، ثم يترك الحديث للآخر الذي قد يكمل حديث الأول، أو يتحدث عن نفسه وعن عائلته الأصغر، وهكذا في متوالية حكائية تنطلق من جذر العائلة لترسم فروع هذه الشجرة التي اسمها قد يشمل ليس داريا فحسب، بل مدنا سورية أخرى عاشت في صفة الريف وعاداته وتقاليده وشقائه وعوزه وكبريائه أكثر من صفة المدينة.
داريا الثورة
يمكن القول إن الفصل الأول كُتب بواقعية شديدة، ولا نقصد هنا اللعبة السردية المسرحية التي أجاد فيها الكاتب، وتشترك نهاياته مع الفصل الثاني بعنوان “داريا الثورة”، إذ جاء مكتوبا بطريقة تسجيلية وكذلك وثائقية، فخلال ذلك تبدأ المظاهرات والتحركات العسكرية للنظام وتشكيل حواجز أمنية وحملات اعتقال لشباب البلدة والنزوح الجماعي لمن استطاع الهرب من العقاب الجماعي.
يخرج محمد و4 نساء و3 أطفال من داريا، نجا هؤلاء من “الموت في داريا، إنما نعيش ذل التهجير في بلدة مجاورة تحت سلطة المليشيات الطائفية وشبيحتهم في موت يومي” كما تروي زوجة محمد، أو كما يقول محمد في مكان آخر “خرجنا من أجل كرامتنا ذات ربيع فإذا بالفصول جميعها تتحول في حياتنا إلى خريف”.
وهكذا تنشطر الحياة والرواية إلى قسمين متداخلين حول الحياة داخل داريا التي تحت فزع الحصار والقصف، والحياة خارج داريا، والتي تجري تحت فزع العوز والذل والخوف من التوقيف والاعتقال والتصفية الجسدية.
لكن، لماذا اختار الكاتب هذه البلدة بالذات دون البلدات الأخرى المجاورة لها، والتي نالت كذلك مصيرا مأساويا؟ فأجاب الكاتب مازن عرفة للجزيرة نت بأنه شهد وعايش حصار داريا وإن كان خارجها.
وأضاف “كنت أشاهد كيف كانت المروحيات ترمي البراميل المتفجرة وقتها، وكنت أعايش المهجرين الهاربين من الموت الذين يلاحقهم الاعتقال والتصفية، لمجرد أنهم من داريا”.
وعن الشيء الخاص بداريا لكي تنال هذا المستوى من العقاب، قال عرفة للجزيرة نت إن مظاهرات “الربيع السوري” انطلقت في الكثير من البلدات المحيطة بالعاصمة دمشق في الوقت نفسه والطريقة ذاتها.
لكن داريا “أصابت السلطة بالذعر بانتفاضتها بسبب التصاقها المباشر، ليس فقط بدمشق، بل أيضا بمطار ومواقع وتجمعات كلها عسكرية، فارتُكبت مجازر وحشية بحق أهلها، ثم أطبق عليها حصار شرس استمر 4 من السنوات حتى سقوطها، الأمر الذي جعل من صمودها حكاية أسطورية على درب الحرية”.
وخلال هذا الفصل والحكايات داخل وخارج داريا بطريقة سينمائية يضخ الكاتب مواد توثيقية عما حصل خلال الحصار حتى سقوط البلدة.
“خلال 4 أعوام وبالضبط خلال 1370 يوما من بداية نوفمبر/تشرين الثاني 2012 وحتى 26 أغسطس/آب 2016 ألقيت على داريا -التي لا تتجاوز مساحتها 20 كيلومترا مربعا- 7849 برميلا متفجرا من الحوامات التي كانت تنطلق من مطار المزة العسكري الملاصق لها، يضاف إليها قصف بأعداد هائلة من الصواريخ وقذائف المدفعية تطلق من التلال المحيطة بها”.
وتحدث بعد ذلك عن صمود داريا من خلال مقاتليها من الأهالي الذين كانوا يدافعون عنها بأسلحة “دفاعية صغيرة ومتوسطة” في وجه “الفرقة الرابعة” و”الحرس الجمهوري” التابعين لجيش النظام والمدعومين من “المليشيات الشيعية الإيرانية”، ولكنهم لم يستطيعوا اقتحامها إلا عندما جاء الروس وطبقوا سياسة الأرض المحروقة “وفق خبراتهم التاريخية في قمع انتفاضة الشيشان ضدهم ومسح عاصمتهم غروزني عن الأرض بالكامل”.
كان عدد سكان داريا 250 ألف نسمة قبل بداية الانتفاضة في عام 2011، ويوم “اتفاق الخروج” لم يكن موجودا فيها سوى 900 مقاتل و4 آلاف مدني، بينهم ألفا طفل، أما نسبة الدمار فبلغت 90%.
الكوابيس والهذيانات
بعد هذه التفاصيل الصغيرة المأساوية -التي اشتغل عليها مازن عرفة بطريقة سرد يختلف رواتها ومصادرها- لا بد أن تأتي الفصول الثلاثة الأخيرة، “داريا المجزرة” و”هلوسة” و”كوابيس المنفى”، وهي عبارة عن مشاهد صادمة لما حدث هناك، فالرواة يصبحون الموتى أنفسهم، في حين الأحياء -الذين حملوا أنقاض المكان والبشر إلى المنفى- يعيشون تحت ضربات الكوابيس وسوء التفاهم مع العالم، وبطريقة ما يجعل عرفة الحد الفاصل بين الحياة والموت، وبين الأحياء والأموات ممحيا بسرد سريالي تارة وعبثي تارة وكابوسي تارة أخرى.
يكتب مازن عرفة هذه الفصول بطرائق سردية مختلفة، من فانتازيا وأحلام وكوابيس وهذيانات تجعل القارئ يشعر بملمس الحرائق والدماء والدموع، مشاهد تبدو سينمائية لأرض محروقة تنبت فيها الجثث لتروي ما عاشته وما ماتت من أجله، “تنهض جثثنا، يتكئ بعضها على الآخر، ونمضي بتثاقل إلى ساحة البلدية كي يتم دفننا”.
و”داريا الحكاية” تأتي ضمن مشروع روائي، فما يُمكن الإشارة إليه أن الكاتب مازن عرفة نشر منذ عام 2011 أعمالا روائية عدة تبدو مثل سلسلة روائية عن الأحداث التي عصفت بالعاصمة دمشق وما حولها منذ بداية تلك الثورة ولحد الآن.
وقد صدرت له روايات “وصايا الغبار” (2011)، “الغرانيق” (2017)، “سرير على الجبهة” (2019)، “الغابة السوداء” (2023)، ويبدو أن “هذا المشروع سيستمر، إذ ستصدر في نهاية هذا العام 2024 رواية “ترانيم التخوم”، في حين “أقوم بالتحضير لروايات قادمة جديدة” كما قال للجزيرة نت.
واستطرد الكاتب مازن عرفة بأن “مشروع (الحكاية السورية) لا يرتبط حصرا ببيئتها المحلية، بل ينفتح بها نحو آفاق جغرافية إنسانية واسعة، أينما يتحرك السوري في مأساته الملحمية الحالية لتطال تهجيره القسري، سواء في بلده أو في بلاد المنفى”.
تبدو رواية “داريا الحكاية” للكاتب السوري المقيم في ألمانيا مازن عرفة أنها تخص في البداية داريا قبل وما بعد اجتياحها من جيش النظام السوري، ثم يتسع الاجتياح من المليشيات اللبنانية والإيرانية والأفغانية والروسية والإسلامية المتشددة، فتتسع لتشمل سوريا كلها.
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، لأن الهذيان يفتح باب المنفى أمام الاجتياح، ثم يعم العبث، لتصبح مسألة القتل والتنكيل والتعفيش والاغتصاب والمقابر الجماعية مسألة كونية لا تخص سوريا وحدها، بل تخص كل مكان فيه يوجد فيه العنصر البشري.