من يملك أن ينزل ضيفا على التاريخ ولا يطلب منه رؤيتك والتحدث إليك أيها الإغريقي العظيم سقراط؟ لفلسفة الحوار معك مذاق عبقري خاص يسمو بالعقل والروح، ويعيد عقل العالم إلى موضعه الحضاري اللائق به على الرغم من جهامة هذا البون الزمني الشاسع بين تفانيك في خدمة الحقيقة الكونية وبين ضلال هذا العالم المتفاني في تكريس غطرسته الإمبريالية، وتصعيد غلوائه التكنولوجية المعززة بغرور إلكتروني قد يدفع بعقلائه قبل جهلائه إلى الهاوية النووية. هذه الأسئلة، وهذا الحوار الوهمي، هو ما يمثل جوهر التفكير الفلسفي، وهو ما يفتقده عالمنا المعاصر.
سقراط: حوار عبر العصور و تحدي الواقع المعاصر
هذه الرسالة، وهذا الاستجواب الذي أطلقه كاتب معاصر من قلب القرن الحادي والعشرين، ليست تبجيحًا أو استعراضًا للوعي، بل هي صرخة مدوية في وجه التيه الذي يعيشه الإنسان في هذا العصر. صوتٌ عربي، قادم من أعماق التراث و الحضارة، يسأل الفيلسوف سقراط عن زمانه المتوهج في العتمة، عن سرّ ذلك النور الذي لا يزال ينبعث من كلماته على الرغم من مرور آلاف السنين. لا يسأله عن تفاصيل زواله، بل عن صلابة قناعاته، عن السبب الذي جعله يختار الموت على التنازل عن مبادئه.
قوة السؤال و ثورة المعرفة
“هل نسيت أنني من أطلق رياح الأسئلة العاتية لتخلع أبواب الجهل والثقافة الزائفة؟” هكذا يجيب سقراط، مؤكدًا أن دوره لم يكن مجرد التفكير، بل إيقاظ العقول، وتحريرها من قيود الجهل والخرافة. لم تكن أسئلته مجرد استفسارات بريئة، بل كانت رياحًا عاتية اقتلعت جذور الوهم، وكشفت عن هشاشة المعتقدات الزائفة. هذا هو الفارق الجوهري بين الفيلسوف والمتملق، بين الباحث عن الحقيقة وبين المدافع عن الوضع القائم.
الأسئلة السقراطية لم تكن تهدف إلى إيجاد إجابات نهائية، بل إلى تحفيز عملية التفكير النقدي، إلى تشجيع الإنسان على التساؤل والتأمل. هذا النهج هو أساس التقدم و التطور، و هو ما يفتقده الكثيرون في عالمنا اليوم، عالم الاستهلاك و التسطيح و التلقين. فقد أصبحنا نكتفي بتلقي المعلومات الجاهزة، ونتهرب من عناء البحث والتحليل.
رفض المساومة و قيمة الحقيقة
يثير الكاتب المعاصر إعجابه بقرار القضاة الأثينيين بمنح سقراط فرصة اختيار العقوبة التي يراها مناسبة، لكنه يقف في دهشة أمام رفضه لهذه اللفتة الديمقراطية. هنا يوضح سقراط أن المسألة ليست مجرد اختيار عقوبة، بل هي مسألة مبدأ. فقبول أي عقوبة بدلاً من الإعدام يعني الاعتراف بالذنب، وهذا غير مقبول بالنسبة لفيلسوف يسعى إلى الحقيقة.
رفض سقراط تأدية الغرامة، حتى بمساعدة تلاميذه، يؤكد على أن الحقيقة لا تُقدّر بثمن، وأن التنازل عنها جريمة لا يمكن التكفير عنها. إنها شهادة على أن الحرية الفكرية أهم من الحياة نفسها. هذا التمسك بالمبادئ هو ما جعله رمزًا للحرية و التفكير المستقل.
الديمقراطية و خطر الجماهيرية
يتساءل الكاتب عن مصير القضاة الديمقراطيين الذين حكموا على سقراط بالإعدام، و عن مصير الديمقراطية نفسها. هذا التساؤل يطرح قضية مهمة حول علاقة الديمقراطية بالحقيقة، و حول خطر الجماهيرية. فالديمقراطية ليست مجرد حكم الأغلبية، بل هي أيضًا حماية حقوق الأقلية، و احترام حرية التعبير. و عندما تتحول الديمقراطية إلى أداة لقمع الآراء المخالفة، فإنها تفقد معناها و قيمتها.
فالجمع بين 500 عضو منتخب من عامة الشعب لمحاكمة فيلسوف مثل سقراط يمكن اعتباره تكريماً. إلا أن سقراط يرى أن الخوف من الموت لا يجب أن يكون حافزاً لعملية التفكير و التساؤل.
زوجة سقراط و قسوة الواقع
يتطرق الكاتب إلى العلاقة المعقدة بين سقراط وزوجته زنتيب، و إلى قسوتها في التعامل معه. هذه اللقطة الإنسانية تذكرنا بأن الفلاسفة ليسوا مجرد أفكار مجردة، بل هم بشر يعانون من نفس المشاعر و التحديات التي يعاني منها عامة الناس. محنة سقراط مع زوجته تظهر أن التنوير لا يقتصر على العقل، بل يحتاج أيضًا إلى وعي اجتماعي و عاطفي.
إرث سقراط و التحدي المستمر
يكفي سقراط فخرًا أن تلميذه أفلاطون حافظ على تعاليمه و نشرها على نطاق واسع، ليظل النور السقراطي يضيء دروب الأجيال القادمة. سقراط هو ليس مجرد شخصية تاريخية، بل هو نموذج للباحث عن الحقيقة، و رمز للمقاومة ضد الظلم و الجهل. ويبقى السؤال الذي طرحه الكاتب في بداية المقال قائمًا: من يملك أن ينزل ضيفًا على التاريخ ويتحدث مع سقراط؟ الجواب هو كل من يسعى إلى الحقيقة، و يرفض الاستسلام للظلام. و هذا هو التحدي الذي يواجهه الإنسان في كل عصر، وفي كل مكان. الفلسفة لا تزال ضرورية، و سقراط لا يزال حاضرًا.
الكلمات المفتاحية: سقراط، الفلسفة، الحقيقة، الديمقراطية، التفكير النقدي.
الكلمات الثانوية: الجهل, المعرفة, الحوار.


