بعد يومين في أمستردام، بين جولة في القنوات المائية واستكشاف الثقافات المتداخلة، وجدتُ نفسي مدعوًا إلى وليمة في مطعم يمني دافئ، بفضل كرم رجل طيب. هذه التجربة، المتناقضة مع برودة الطقس، قادتني إلى اكتشاف سينمائي فريد، رحلة بدأت في محطة قطار وتنتهت في “Wishful Filming” (فيلم الأماني)، العمل الوثائقي الذي يتردد صداه بعمق بعد انتهاء عرضه. هذا الفيلم، الذي أثار إعجابي، يمثل قصة سينمائية مؤثرة تستحق المشاهدة والتمعن، وهو ما سنستعرضه في هذا المقال.
فيلم الأماني: قصة من قلب بروكسل وصدى في أمستردام
تأخرتُ عشر دقائق عن موعدي، لكنني سرعان ما انغمست في عالم الفيلم الذي يتتبع خيوط الحياة اليومية في بروكسل. الفيلم لا يبحث عن الدراما الظاهرية، بل يتعمق في التفاصيل الإنسانية الخفية. إنه يروي قصة المخرجة البلجيكية سارة فاناغت، التي انطلقت بكاميرتها الصغيرة لتكشف عن رسائل مخفية تركها عمال البناء، القادمون من شتى بقاع الأرض، في قلب المدينة. هذه الرسائل، المدسوسة في فجوات الجدران وتحت أحجار الرصيف، هي أكثر من مجرد كلمات؛ إنها صرخات من الوجود، وأمنيات مستقبلية، وشهادات على حياة أولئك الذين يبنون عالمنا. يعتبر فيلم الأماني تحفة سينمائية صغيرة، تجمع بين البساطة الشعرية والعمق السياسي.
اكتشاف تقليد أوروبي قديم
فكرة الفيلم ليست وليدة اللحظة، بل تستمد جذورها من تقليد أوروبي عريق يعود إلى قرون مضت. فمنذ القدم، درج البناؤون على ترك بصماتهم أو تمنياتهم للأجيال القادمة داخل المباني التي يشيدونها. تروي سارة فاناغت كيف اكتشفت هذا التقليد أثناء دراستها في لندن: “كنت أقرأ جريدة في مخبز محلي، وأحيانًا أرى أخبارًا عن العثور على رسائل من بناة قدامى أثناء أعمال الترميم. كان هذا الأمر يثير إعجابي الشديد، وشعرت بأن ما يفعله هؤلاء البناة هو عمل فني بكل معنى الكلمة.” هذا الاكتشاف البسيط أشعل شرارة الإبداع في ذهنها، وحوّلها إلى ملاحقة هذا الإرث المخبأ في مدينة حديثة.
تنوع ثقافي في رسائل مكتوبة
لم يكن العثور على الرسائل هو التحدي الوحيد. بل صقل الفكرة وتنفيذها على أرض الواقع استغرق سنوات من الصبر والمثابرة. واجهت سارة صعوبة في الحصول على إذن بالدخول إلى مواقع البناء في بروكسل، لكنها أصرت على لقاء العمال بأنفسهم ومعرفة من يرغب في المشاركة في هذا المشروع الفريد. والنتيجة كانت مذهلة، فالعاملون الذين التقت بهم جاؤوا من بولندا وإيران والبرازيل والمغرب وبلجيكا نفسها، مما أضفى على الرسائل تنوعًا ثقافيًا لغويًا يعكس بشكل حقيقي تركيبة المجتمع في العاصمة البلجيكية. هذا التنوع جعل الفيلم الوثائقي بمثابة سجل حي للهجرة والعمل في عالمنا المعاصر.
أسلوب تصوير فريد ولقاءات عابرة
ما يميز “فيلم الأماني” هو أسلوبه التصويري البسيط والعفوي. فالفيلم لا يعتمد على السرد الخطي أو المقابلات الطويلة، بل يركز على اللقاءات العابرة بين المخرجة والعمال. تصف سارة هذه اللحظات بأنها “لعبة” تقترحها على المشاركين: هل يرغبون في ترك رسالة؟ وماذا يودون أن يكتبوا؟ لم تتدخل في محتوى الرسائل، ولم تحاول توجيههم بأي شكل من الأشكال. كانت تسمح لهم بالتعبير عن أنفسهم بحرية تامة، وتوثق اللحظة كما تحدث، دون تدخل أو تعديل. هذه العفوية منحت الفيلم أصالة بصرية مؤثرة، حيث نرى بأعيننا أيدي العمال وهي تخط الكلمات بتروٍ، ثم تلاحقهم الكاميرا وهم يبحثون عن المكان المثالي لإخفاء رسائلهم.
ما وراء الرسائل: أسئلة حول الهجرة والمستقبل
تتجاوز الرسائل المخبأة في الفيلم كونها مجرد كلمات عابرة، لتطرح أسئلة عميقة حول الهجرة والعمل والذاكرة والمستقبل. إحدى الرسائل تقول ببساطة مؤثرة: “حين تجد هذه الرسالة، آمل أن يكون العالم مكانًا أفضل.” هذه الكلمات القليلة تختزل أملًا إنسانيًا عميقًا في مستقبل أفضل، وتعكس إيمان العامل بأن ما يبنيه اليوم سيشهده أناس آخرون غدًا. فيلم الأماني ليس مجرد عمل سينمائي، بل هو دعوة للتفكير والتأمل في قضايا معاصرة تهمنا جميعًا. الأسلوب الوثائقي الذي يتبعه الفيلم يجعله قريباً من القلب، ويلامس الإحساس الإنساني.
صدى في مهرجان إدفا وإعادة تعريف السينما الوثائقية
لم يقتصر عرض “فيلم الأماني” على مهرجان دوكليسبوا في البرتغال، حيث فاز بجائزة أفضل فيلم وثائقي عن بيئة العمل، بل وصل أيضًا إلى مهرجان إدفا الدولي للأفلام الوثائقية في أمستردام، ضمن قسم مخصص للأصوات السينمائية المميزة. هذا النجاح يعكس القيمة الفنية والاجتماعية التي يحملها الفيلم. في سياق مهرجان إدفا، يكتسب الفيلم بُعدًا سياسيًا أعمق، خاصةً مع التركيز المتزايد على أفلام الجنوب العالمي وتلك التي تتناول قضايا إنهاء الاستعمار. الفيلم يكشف عن شكل من أشكال الاستعمار الاقتصادي والاجتماعي، حيث تُبنى المدن الأوروبية الثرية بأيدي عمال من دول أفقر، وتمنحهم فرصة للتعبير عن أنفسهم وكتابة رسائلهم الخاصة.
باختصار، “فيلم الأماني” هو عمل سينمائي فريد من نوعه، يستحق المشاهدة والتأمل. إنه يذكرنا بأهمية العمل والإنسانية والأمل في مستقبل أفضل، ويدعونا إلى التفكير في دورنا في بناء هذا المستقبل. ابحثوا عنه في المهرجانات السينمائية القادمة، أو حاولوا العثور على طريقة لمشاهدته عبر الإنترنت. صدقوني، لن تندموا.













