في زمن عربي يتسم بالسيولة الشديدة، حيث تنهار السرديات الكبرى وتتحول الأوطان إلى صناديق سوداء مغلقة على الجثث والأسئلة المعلقة، يأتي كتاب “رسالة اللاغفران: نقد ثقافي على تخوم مضطربة” للكاتب السوري حسام الدين محمد، والصادر حديثا (2025) عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ليشكل صرخة معرفية وجمالية في وجه النسيان و”الغفران” المجاني. هذا الكتاب ليس مجرد إضافة إلى رفوف الأدب النقدي، بل هو محاولة جريئة لفك الارتباط بسنوات من التواطؤ الفكري والسياسي الذي أنهك المنطقة. رسالة اللاغفران تمثل دعوة للمحاسبة، ليس فقط على الأفعال السياسية، بل على الجرائم الثقافية التي ساهمت في تشكيل هذا الواقع المأساوي.

“رسالة اللاغفران”: تشريح أزمة الوعي العربي

يتجاوز كتاب رسالة اللاغفران وظيفته كإصدار ثقافي ليصبح بياناً ضد الصمت، وضد “الأصنام” التي عبدتها النخبة العربية زمناً طويلاً، سواء كانت أصناماً سياسية (كالاستبداد) أو ثقافية (كبعض الرموز الأدبية والفكرية). إنه حفر أركيولوجي في طبقات الوعي العربي المأزوم، ومحاولة لتفكيك المتاهة التي بدأت من “دار العلوم” (مطبعة والد المؤلف في دمشق) وانتهت في منافي اللجوء الباردة. الكتاب لا يقدم حلولاً جاهزة، بل يطرح أسئلة وجودية حول مصير الثقافة العربية وهويتها في ظل التحولات العاصفة التي تشهدها المنطقة.

عتبات النص: من “رسالة الغفران” إلى “محاكمة أرضية”

لا يمكن الدخول إلى صلب الكتاب دون التوقف عند عنوانه، “رسالة اللاغفران”، الذي يحيلنا مباشرةً إلى “رسالة الغفران” الشهيرة لأبي العلاء المعري. لكن حسام الدين محمد ينزع الغفران من العنوان، مؤكداً أننا أمام “محاكمة أرضية” لا تقبل الصفح عن الجرائم الثقافية والسياسية التي أودت بالمشرق العربي. هذا التحويل ليس مجرد لعب لغوي، بل هو تأكيد على ضرورة مواجهة الماضي بشجاعة ومسؤولية، ورفض التناسي أو التبرير. الكاتب يرفض فكرة “الغفران” كأداة لتخدير الوعي وإعادة إنتاج نفس الأخطاء.

بين الصحافة الأكاديمية والهمّ العام: موقع الكتاب في الحقل الثقافي

يقع الكتاب في منطقة التخوم المضطربة، وهي منطقة وسطى بين الصحافة الثقافية العميقة والنقد الأكاديمي، وبين السيرة الذاتية والهمّ العام. يبدأ الكاتب من “أسطرلاب المتاهة”، مستعيداً سيرة والده والمطبعة في دمشق، ليرسم خطاً بيانياً لرحلة التيه العربي من “محطة الحجاز” التي كان مأمولاً أن تكون مركز أعصاب دولة عربية موحدة، إلى شتات المنافي في لندن وغيرها. هذا المزج بين الشخصي والعام، وبين التاريخي والمعاصر، يمنح الكتاب عمقاً خاصاً وقدرة على التأثير في القارئ. النقد الثقافي هنا لا ينحصر في تحليل النصوص والأفكار، بل يتجاوز ذلك إلى فهم الظروف الاجتماعية والسياسية التي أنتجتها.

فصول “رسالة اللاغفران”: محاور النقد والتحليل

يتوزع الكتاب على أربعة فصول رئيسية تتناول قضايا محورية في المشهد العربي الراهن:

محاكمة المثقف والسلطة

يشُن الكاتب نقداً لاذعاً على ما يسميه “أصنام” الثقافة العربية، وفي مقدمتهم الشاعر أدونيس، متهماً إياه بـ”الطائفية الثقافية” وتجاهل مآسي الثورة السورية. كما يعيد قراءة التراث العربي، مفاضلاً بين نموذج أبي العلاء المعري (العقل والشك) ونموذج المتنبي (شاعر القوة والسلطة)، ليرى كيف انحازت الثقافة العربية غالباً لنموذج السلطة. هذا الفصل يمثل صراعاً بين الأيديولوجيات والمواقف الفكرية المختلفة.

تشريح الاستبداد والأيديولوجيا

يخصص الكتاب مساحة واسعة لنقد تجربة “حزب البعث” في سوريا والعراق، ويتتبع كيف تحولت شعارات “الوحدة والحرية” إلى أدوات للقمع. يميز الكاتب لغوياً وسياسياً بين مفهومي “الثورة” و”الانقلاب”، ويحلل كيف زوّرت الأنظمة العسكرية المعاني والمفاهيم. هذا الفصل يمثل محاولة لفهم جذور الاستبداد في المنطقة وكيف تم ترسيخه في العقول والقلوب.

الأدب في مواجهة الطغيان

يستحضر الكاتب نماذج عالمية لفهم الواقع العربي، مثل جورج أورويل وروايته “1984”، التي يراها وثيقة تنطبق تماماً على “سوريا الأسد”. كما يسرد قصصاً عن معاناة الأدباء مع الدكتاتورية، مثل الشاعر الروسي أوسيب ماندلستام مع ستالين، والروائي الألباني إسماعيل كاداريه. هذا الفصل يمثل شهادة على قوة الأدب في مواجهة الظلم والقمع.

نقد الظواهر الثقافية

يتناول الكتاب مواضيع متنوعة تمتد من السينما (مارلون براندو وفيلم العراب) إلى الرواية العالمية (جيمس جويس، همنغواي). كما يناقش قضايا الهوية، والاستشراق (مع إشارة لإدوارد سعيد)، والعلاقة الملتبسة بين الشرق والغرب، ومفاهيم مثل “النوستالجيا” و”الحداثة المعطوبة”. هذا الفصل يمثل محاولة لفهم تعقيدات الثقافة العربية وتفاعلها مع الثقافات الأخرى.

بنية “الموزاييك” والخطاب النقدي

يعتمد حسام الدين محمد في بناء كتابه على بنية “الموزاييك” أو الفسيفساء المعقدة، حيث تتداخل المقاطع النقدية والتحليلية لتشكل لوحة واحدة متكاملة. يتميز الخطاب النقدي في هذا العمل بالربط الجدلي بين اليومي والمعرفي، والتفكيك الجيني للمفاهيم، والمثاقفة النقدية الغنية. هذه الخصائص تمنح الكتاب قوة تفكيكية وقدرة على التأثير في القارئ. التحليل السياسي يتداخل هنا مع التحليل الأدبي لخلق رؤية شاملة للأزمة العربية.

في الختام، “رسالة اللاغفران” ليست مجرد كتاب نقدي، بل هي صرخة احتجاج على واقع عربي مأزوم، ودعوة إلى التفكير النقدي وإعادة الاعتبار للقيم الإنسانية. الكتاب يمثل إضافة قيمة إلى المكتبة العربية، ويستحق القراءة والتأمل من قبل كل من يهتم بمستقبل المنطقة.

شاركها.
اترك تعليقاً