“الرحلة لا الوصول”، على وقع هذه الحكمة الفلسفية ينفتح السرد في رواية “قيامة جميلة” للروائي السوري الدكتور أديب حسن. حكمة تمهد لكل ما سيجيء بعدها من أحداث وحكايات أراد لها الروائي أن تدور في فلك تلك العبارة التي تحملنا على تأمل معنى الحياة، فيما نشتبك معه ونخوض فيه ونجربه ونتعلم منه، لا فيما نصبو إلى تحقيقه من أهداف وأماني فحسب.
تحبك الأحداث في “قيامة جميلة” -الصادرة حديثا عن دار موزاييك للدراسات والنشر- وفقا لبنية سردية ودلالية محكمة، تشترك في تشييدها عناصر فنية وتقنية مختلفة، لكن تبقى أبرز تلك العناصر هي الوقفات الوصفية الطويلة وما تنطوي عليه من صور شعرية مشحونة بفكر متقد وعاطفة متأججة لا يضبط تدفقها سوى النضج الأسلوبي اللافت عند حسن.
وتدور أحداث الرواية حول قصة حب تجمع بين الشاب الكردي السوري جان والفتاة الجزائرية جميلة في شركة ناشئة بإحدى الدول التي لم يسمها الكاتب، ومن خلال قصة العاشقين، وخلفيتهما كـ”ناجيين” من حروب طاحنة دارت رحاها في بلديهما، وما يواجهانه من صعوبات وتحديات للتأقلم مع العالم الجديد خارج وطنيهما؛ يسلّط الروائي الضوء على مجموعة من القضايا المتصلة بمعاناة الشعوب التي خبرت حروبا، بأسلوب سردي يجنح إلى توظيف مكامن الشعرية في اللغة والاستلهام من الأسطورة.
الحب والحرب والأسطورة
تبدأ الرحلة، التي هي الغاية من الحياة كما أخبرنا الراوي في السطر الأول من المتن، من اللحظة التي يظهر فيها سيدي مسيد (وهو شخصية أسطورية لولي صالح عاش في مدينة قسنطينة شرقي الجزائر)، بأعجوبة للراعي البسيط جان وهو يرعى أغنامه في الحقول.
ينطق سيدي مسيد باسم “جميلة” أمام جان، ويفتح عيون الصبي الحالم على رؤية فيها الحب خلاص من كل ألم، ليبدو ذلك بمثابة نبوءة بانتظار أن تتحقق للراعي صاحب المزمار والصوت الجميل والأغنيات الكردية المليئة بالأحلام والحب.
وجان “هو القادم من دخان الحروب ومقتلة الطوائف والملل، حاملا شرارة حلم استيقظ على لسعة الغموض في تفاصيله”، أما جميلة فهي الفتاة البيضاء الغجرية الملامح “الهاربة من حكايا وأساطير وكوابيس حاصرت روحها، فقفزت إلى هذه البلاد ناضجة، ومثخنة، ومدفوعة بنداء غامض وخفي أتاها في حلم”.
وكما أن جان يفد إلى هذه البلاد الجديدة مدفوعا بنبوءة سيدي مسيد وهاربا من مقتلة الطوائف، فإن جميلة أيضا تفد إليها بعد حلم راودها عندما نامت وأهلها ليلة قرب مزار سيدي مسيد بعد “نجاتها” من العشرية السوداء (الأزمة الأمنية في الجزائر تسعينيات القرن الماضي ومطلع الألفية الحالية).
وهكذا نجد أن أسطورة حب هي التي تنتشل الحبيبين من واقع الألم والانكسار الذي خبراه خلال الحروب في بلديهما، فهما -كما يقول حسن للجزيرة نت- “لولا الحروب لما خرجا من بلديهما وقدما إلى بلد ثالث مستقر يزخر بالعمالة الوافدة، وفي العمق كان الأمر مختلفا لو قدما من بلديهما بحثا عن تحسين ظروف الحياة، وليس هربا من خراب، أو نجاة من موت بات اللغة التي يتحدث بها المتحاربون”.
وعن أسطرة (فعل السرد الذي يستلهم عناصر بنائه من الأسطورة) حكاية العاشقين، يقول حسن للجزيرة نت “لقد كانت الأسطرة في الرواية مرادفة للأمل، ولفكرة الإصرار والسعي خلف الحلم مهما بدا غير ممكن وبعيد المنال، وفي روايتي كان الحب هو من بدأ الأسطرة وجعل الترادف ممكنا بين رحلة الرجل العارف سيدي مسيد من الصحراء الأفريقية إلى جبال قسنطينة متداخلة ومتواقتة مع رحلة جان إلى لقاء جميلة”.
وبهذا تلعب الأسطورة دور الجامع بين النقيضين: الحب والحرب. وكأنما الروائي أراد أن يطرح سؤالا عن كيف يمكن للناس أن يقعوا في الحب مجددا بعد معايشتهم ورؤيتهم لكل ضروب الكراهية في ما خبروه خلال الحروب؟ ليجيب بأنها القدرة السحرية للأساطير التي يؤمنون بها، والتي من شأنها أن تبقي على نقاء داخلي يؤهلهم للحب ويدفعهم للثقة بالآخر مجددا.
لكن، أي عالم ذلك الذي وصل إليه الحبيبان؟
العالم في مبنى
“هذا المبنى هو صورة مصغرة للعالم؛ ضجيج وتنافس وتزاحم على مكان يضيق باستمرار”.
بهذه الكلمات يختزل الراوي صورة العالم الجديد الذي وفد إليه الحبيبان، فيلتقي جان بجميلة في هذا العالم، الشركة التي وظفتهما بعد أيام من وصولهما إلى هذا البلد الذي لم يسمه الراوي.
وبدلا من الكراهية التي فجرتها الحروب في بلديهما، وجد جان وجميلة عالما قائما على النميمة والتنافس القذر والمشاعر الزائفة التي يتبادلها الناس فيما بينهم، سعيا للحفاظ على أعمالهم وحصولهم على أكبر قدر من المال.
فمدير الشركة لا شاغل له سوى إيقاع الموظفات في شرَكه، ليقدمن أجسادهن على مائدة شهوته المتجددة، أما سكرتيرته فهي “أفعى” تبدل جلدها بحسب الظرف لتكون واشية أو صيادة نساء أو غيرها من الأدوار التي لا صلة لها بوظيفتها، وما تبقى من الموظفين لا حول لهم ولا قوة سوى أن يقدموا أفضل ما لديهم ليحافظوا على أعمالهم ووظائفهم.
في هذا العالم، يتعرف جان إلى جميلة ويهيم بها ليواجها معا قسوة الغربة، وسطوة الحاجة، وخبث المدير ومعاونيه، ومظاهر الزيف التي تحيط بحياتهما وتجعل من كل شيء يبدو خاويا ولا معنى له.
وهكذا تغدو هذه المحطة في رحلة العاشقين بمثابة إدانة لعالم يترك الناس بلدانهم ويأتون إليه مغتربين سعيا إلى جمع أكبر قدر من المال ليحيوا حياة كريمة، فيصطدمون بحواجز ومعوقات لا تقل مناعة وضراوة عن تلك التي كانوا يواجهونها في بلدانهم.
وعن هذا العالم الذي هو نموذج لنظام سياسي واقتصادي، يقول حسن للجزيرة نت “أردت كشف اضمحلال وانحدار القيم والمشاعر الإنسانية كلما اتسعت أسواق المال أكثر، وهذا مسعى جنوني وتدميري لفكرة الأنسنة التي تتراجع شيئا فشيئا في سياق السباق المحموم نحو تشييء كل ما كان خارج التشيؤ، وفي هذا البازار الكبير لا غرابة أن يصبح كل شيء قابلا للبيع وللعرض والطلب حتى المشاعر والأحاسيس والانفعالات”.
جميلة التي “نجت” من الحرب
ومع تقدمنا في القراءة، تقبض جميلة على صوتها فتحدثنا قائلة “إنكم أمام فتاة منكسرة ومترعة بالهزائم، شقت دروب التعليم حتى أعلى درجاته في تلك البقع الجغرافية المفرنسة التي ينطق أطفالها حروفهم الأولى بالفرنسية”.
ولكنها تكشف عن جانب آخر من شخصيتها، كونها عاشت مرحلتي الطفولة والمراهقة بالتزامن مع التصعيد العسكري بين أطراف النزاع خلال العشرية السوداء في الجزائر، فكانت مجبرة على ارتداء النقاب والتقيد بالكثير من التعليمات التي لم تكن تعكس شخصيتها، وشهدت خلال تلك الحقبة على أفظع مشاهد القتل والانتهاكات بحق الجزائريين.
وبين “رياح الليبرالية الآتية من الشمال، والإرث الثقيل من السلفية الدينية”، كانت جميلة تبني شخصيتها وسط التناقضات، حتى لتحار هي نفسها فيما إذا كانت “ثمرة أو نقمة تلك الحقبة”.
والمحقق أن جميلة نجت من الموت في تلك الحرب، لكنها نجت “بجسدها فقط”، أما روحها فقد تمزقت ولم تعد قادرة على تجميع فتاتها، ولذلك كان عليها أن تركز على ما تبقى لها بعد مضي تلك الحرب: جسدها.
وتبدو شخصية جميلة -التي خسرت روحها مجازا- كإدانة لأطراف النزاع في الحرب وما خلفته من انكسارات وآلام حتى عند الذين نجوا من الموت في معاركها ومجازرها، أما علاقة الحب التي جمعتها بجان فكانت بمثابة إدانة للحروب بكل أشكالها وأصنافها.
يقول حسن “خلفت الحرب في روحيهما جرحا غائرا يمتزج فيه الضعف بالتيه والخذلان، فهما يلتقيان في هذه النقطة حيث تتواقت الجراح، وتتشابه الانكسارات. كلاهما بلا سند في الروح يخفف عنهما مآلات الغربة، وكلاهما مكشوفان بحياة ماضية في احتمال وحيد هو احتمال الصبر على كل شيء قاس حتى لو كان نكأ جرحا غائرا وعميقا، هذا التواقت هو الذي ولد كل ذلك الشغف والسحر في علاقتهما الملتبسة والمتفردة، فبحثهما عن الحب كان تعويضا عن فقدان وطن في وجه من وجوهه”.
القيامة
ومع اقترابنا من نهاية الرواية، نجد أن العالم الذي وفد إليه الحبيبان قد بدأ بالانهيار، فالشركة تخسر، ومديرها يفلس وتعتقله الشرطة بتهمة التحرش بجميلة، في حين تستيقظ المدينة على خبر تفشي فيروس فتاك يودي بحياة البعض ويجبر البعض الآخر على العزلة، بينما تتحلل العلاقات الاجتماعية الزائفة ويضطر كل شخص للنجاة بنفسه.
وعن هذا المصير، يقول حسن “تلك نهاية كل شيء يخالف طبيعته وفطرته، وإنك في مسايرة متطلبات التغول المالي الكثيرة لن تجد نفسك أنت أنت، بل ستكون مخلوقا مسخا لا يذكر شيئا من أرومة وجوده وحكمة رسالته، فكل شيء زائف مهما التمع بخدعة ماكرة ومكينة فإن له أجلا هو أجل محك الحقيقة التي تتكشف عندها كل قيمة زائفة، والرحلة من الزيف إلى انكشافه قد تكون ضرورية أحيانا لإعادة اكتشاف قيمة الأشياء الثمينة التي بقيت تقاوم عواصف الزيف والانتحال”.
ويضيف الكاتب “لعل أهم ما يجب الوقوف معه في تلك الموجة الهوجاء هو الإنسان أو ما تبقى منه على الأقل، لكي تبنى عليه آمال البشرية، فالوجود الإنساني ليس محكوما بصليل الآلات والتقانة التي تتسلل إلى حياتنا وتسلبنا شيئا فشيئا حتى ملامحنا. الوجود هو المشاعر التي لا تموت ولا تعلب وتعرض كبضاعة يشتريها القادرون. لذلك كان من المحتم على ذلك العالم المسخ أن يتداعى لأنه مخالف للطبيعة، والطبيعة تتسامح إلى حين، لكن ليس للأبد”.
ومع تداعي ذلك “العالم المسخ”، كان لا بد للعاشقين من الطيران إلى حيث كانت تشدهم أقدارهم منذ بداية الرحلة، إلى الجزائر حيث مزار سيدي مسيد. وفي مشهد أسطوري يتلاقى الحبيبان عندما تطوي الأرض صفحتها لتسمح لجبلي الجودي وقسنطينة بالالتقاء.
يقول حسن: “فكرة التقاء الجبلين المستحيلة جسدتها الأسطورة إلى ممكن عندما أحلت جميلة وجان في صورة الجبلين البعيدين، وصار التقاء جميلة بجان هو التقاء الجبلين الذي كان محالا.. لكن بقوة الحب فقط التقيا”.
وختاما، تبدو رواية “قيامة جميلة” محاولة لتجاوز واقع عربي يقع اليوم بين مطرقة الحروب وسندان الزيف والاستغلال، تجاوز عبر شعرية السرد وأسطورية الحدث التي تنحت المعاني المفقودة وتعيدها إلى الوجدان، و بتعبير حسن “كل الأساطير يولدها دافع البحث عن شيء مفقود لتعوضه”.