في خضمّ المشهد الأدبي العربي المعاصر، تبرز رواية “مقعد أخير في الحافلة” لأسامة زيد كصوتٍ جديدٍ يفرض نفسه بقوة. هذه الرواية التي صدرت في عام 2025 عن دار الرواق للنشر في مصر، وتدور أحداثها حول حادث سير مروع، لا تكتفي بسرد تفاصيل المأساة، بل تتعدى ذلك لتغوص في أعماق النفس البشرية، وتستكشف تبعات الصدمة والذنب والنجاة. يقدّم زيد عملاً روائياً يمزج بين الواقعية النفسية والفلسفة الوجودية، مما يجعله إضافة نوعية للمكتبة العربية.

“مقعد أخير في الحافلة”: بداية صادمة واستكشاف لمعنى النجاة

تبدأ الرواية بتصوير حيوي ومفجع لـ حادث سير يقع بمجموعة من الموظفين قبيل عيد الأضحى. موت و إصابات، و حياة تعرضت لتغيير جذري. لا يخفي الكاتب أوراقه مبكرًا، بل يضع القارئ في قلب الحدث، أمام حقيقة دامية لا تحتمل التأويل. ينجح زيد في رسم مشهد سينمائي متكامل، مليء بالتفاصيل الدقيقة والمشاعر المتضاربة، ليعكس الفوضى والهلع اللذين يعصفان بالشخصيات في تلك اللحظات القاتلة.

هنا، يطرح الكاتب سؤالًا جوهريًا: ما معنى النجاة؟ هل يكفي أن ينجو الجسد من الموت المحقق، أم أن النجاة الحقيقية تكمن في القدرة على تجاوز الآثار النفسية والروحية للجريمة؟ فبينما يتلقى الناجون العلاج الجسدي، تبقى كدمات أرواحهم نازفة، و مخاوفهم و تساؤلاتهم بلا نهاية.

تبعات الحادث: بين الكسور الجسدية و الكدمات النفسية

تعود الشخصيات إلى حياتها بعد الحادث، مثقلة بالكسور الجسدية و النفسية. حالة من الفقد و الضياع تعمّ الجميع. لكن الرواية تركز بشكل خاص على شخصية آدم، الذي يُعتقد أنه السبب في وقوع الحادث.

فقد أعطى آدم مقعده في الحافلة لأبي المجد، اعتقادًا منه أنه يمنحه فرصة للاستمتاع بمنظر النافذة. لكن هذا الفعل، الذي بدا للوهلة الأولى بمثابة اللطف، تحول إلى لعنة تطارده. فالقدر كان قد حكم بأن ينجو الجميع باستثناء أبي المجد، ليجد آدم نفسه متورطًا في مأساة لا مفر منها، يشعر بأنه قاتل لوالده الذي رحل كمداً بسبب قراره بالسفر، و قاتل لأبي المجد الذي قدم له مقعده المشؤوم.

عقدة الذنب: محور الرواية و عمقها النفسي

تُمثل عقدة الذنب المحرك الرئيسي لأحداث الرواية وشخصية آدم. فهو لا يلوم نفسه على موت أبي المجد فحسب، بل يمتد إحساسه بالذنب ليشمل كل شخص يتعرض لأي مكروه في حياته. يعتقد أن وجوده يجلب النحس، وأن كل سوء يصيب من حوله هو نتيجة مباشرة لأفعاله.

يصف الكاتب هذا الشعور ببراعة، مُظهرًا كيف يمكن للذنب أن يتحول إلى هاجس قهري، يقود الشخص إلى التفكير بشكل غير منطقي، وتحميل نفسه مسؤولية ما ليس مسؤولاً عنه. إلا أن آدم يجد الخلاص في مشهد مؤثر، أثناء تغسيل جثة حسان والد سامر، و بعدها خلال مراسم الدفن. هناك، يرى آدم وجوه الضحايا الثلاثة – أبي المجد، والده، وحسان – مجتمعة في وجه واحد، كأنهم يمنحونه صك الغفران، ويحررونه من قيود الذنب.

أسلوب الكاتب و تقييم الرواية

يتميز أسامة زيد بأسلوبه السلس و لغته الراقية، وقدرته على رسم الشخصيات بعمق و مصداقية. فهو لا يكتفي بتقديم معلومات عنهم، بل يتوغل في دواخلهم، و يكشف عن صراعاتهم و تناقضاتهم. و يلفت انتباه القارئ أيضًا، قدرة الكاتب على إضفاء جو من الواقعية على الأحداث، و جعله يشعر وكأنه يعيش مع الشخصيات لحظة بلحظة.

الرواية النفسية هي أحد أهم عناصر القوة في هذه الرواية. فالكاتب يتناول قضايا نفسية عميقة، مثل الصدمة و الفقد و الذنب، بطريقة ذكية و مؤثرة، مما يجعل القارئ يتأمل في تلك القضايا و يفكر في مغزاها.

على الرغم من جمالية الرواية و عمقها، يلاحظ بعض النقاد تحولاً مفاجئًا في أسلوب السرد، من الراوي العليم إلى الراوي الأول، بعد تجاوز أكثر من ثلثي الرواية. هذا التحول، على الرغم من أنه قد يكون مقصودًا، إلا أنه يبدو غير مبرر و يكسر الإيقاع العام للرواية. و يشير الكاتب في حوار معه إلى أن محتوى الرواية مستوحى من تجربة شخصية مر بها.

“مقعد أخير في الحافلة”: عودة واعدة للرواية المصرية

تُعد رواية “مقعد أخير في الحافلة” إضافة قيّمة للأدب المصري المعاصر. فهي تعيد الأمل في ظهور جيل جديد من الروائيين الذين يتمكنون من تقديم أعمال ذات جودة عالية، و عمق فكري و نفسي.

في ظلّ انتشار النشر السهل و السريع، و تراجع المعايير النقدية، يأتي عمل أسامة زيد ليؤكد أن الكتابة الحقيقية هي تلك التي تتطلب جهدًا و صبرًا و موهبة. و بغض النظر عن التأخر في بداية رحلته الأدبية، فإن أسامة زيد قد أثبت أنه قادر على ترك بصمة واضحة في المشهد الروائي العربي. الرواية هي بالتأكيد بداية مشرفة لكاتب واعد.

لمشاركة هذا المقال: [انقر هنا للمشاركة على وسائل التواصل الاجتماعي]

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version