يعد معرض القاهرة الدولي للكتاب من أهم الفعاليات الثقافية في العالم العربي، إذ لا يقتصر في دورته الـ56 على كونه مجرد ملتقى لصناعة الكتاب والنشر، أو منصة تعبر عن الثراء الثقافي والتنوع الفكري العربي، بل يمثل ساحة فكرية تجمع العقول والثقافات من مختلف أنحاء العالم.

وقد أصبح معرض القاهرة الدولي للكتاب حدثا ثقافيا كبيرا يجذب دور النشر والكتّاب من مختلف أنحاء العالم، حيث يشارك فيه هذا العام 80 دولة عربية وأجنبية و1350 دار نشر و6 آلاف عارض، مما يعزز مكانته بوصفه إحدى كبرى الفعاليات الثقافية العالمية. كما يلعب دورا محوريا في دعم حركة النشر وتعزيز ثقافة القراءة لدى الأجيال الجديدة.

ويحتل المعرض مكانة عالمية مرموقة، إذ يُصنف ثاني أكبر معرض كتاب في العالم بعد معرض فرانكفورت، ويقام على مساحة شاسعة تتضمن خمس صالات ضخمة مخصصة لدور النشر، بالإضافة إلى صالة خاصة بمكتبات سور الأزبكية التي تضم كنوزا من الكتب القديمة والنادرة، فضلا عن جناح للكتب الأجنبية، ويستقطب زوارًا من مختلف الجنسيات، مما يجعله فضاءً للتفاعل الثقافي وتبادل الأفكار.

وعلى الرغم من الإقبال الكبير والزحام الواضح في مختلف الأجنحة، فإن معدلات شراء الكتب لا تعكس دائما حجم الحضور، إذ يلاحظ أن أعدادا كبيرة من الزائرين يغادرون المعرض دون شراء كتب، في حين تحمل قلة منهم كتابًا أو أكثر، مما يعكس تحديات تتعلق بالقدرة الشرائية أو بتغير أنماط الاستهلاك الثقافي.

غزارة في الزوار وقلة في المبيعات

على الرغم من الأعداد الكبيرة لزوار معرض القاهرة الدولي للكتاب، فإن حركة الشراء لا تعكس هذا الزخم الجماهيري، فخارج الصالات يجلس العديد من الأسر والأفراد في منطقة المطاعم وكأن المعرض تحوّل بالنسبة للبعض إلى مساحة للتنزه وقضاء وقت الفراغ أكثر منه مكانا لاقتناء الكتب.

وقد وصف المترجم المعروف الدكتور رفعت السيد هذه الظاهرة بمقاربة ساخرة، معتبرًا أن رواد المعرض يشبهون وصف جورج برنارد شو للرأسمالية، حيث يوجد “غزارة في الأعداد وقلة في الشراء”، كما نشر على صفحته صورة لأحد الزوار وهو يجلس إلى طاولة مليئة بالمأكولات والمشروبات، في وقت تكدست فيه خلفه الكتب دون أن يلمسها، وعلّق على الصورة قائلًا “هذا هو شعار معرض الكتاب: أكل كثير.. ولا كتب”.

كما أن ارتفاع أسعار الكتب أصبح عائقا آخر يحول دون إقبال الزوار على اقتناء الكتب، فمع تزايد تكلفة الطباعة والورق ارتفعت أسعار الكتب إلى مستويات يرى البعض أنها مبالغ فيها. يقول الروائي سعد القرش إن على الناشرين إدراك أنهم يبيعون كتبهم في مصر، حيث يجب أن يتحلوا بالقناعة والتواضع في تسعير الكتب، متسائلا:

“لماذا يتم تسعير الكتاب بالدولار في حين يتعامل المواطن المصري بالجنيه؟”

أشار إلى أن متوسط دخل الفرد في مصر لا يتجاوز 200 دولار شهريًا، مما يجعل بعض أسعار الكتب غير منطقية بالنسبة للقراء.

كتب بأسعار لا تنافس في سور الأزبكية بمعرض القاهرة الدولي للكتاب.jpg

وأضاف القرش بأسى أنه فوجئ عندما حاول شراء أحدث رواياته من الناشر، ليكتشف أن سعرها 800 جنيه، مما دفعه إلى التراجع عن شرائها، موضحًا أن هذا المبلغ -الذي يعادل 16 دولارًا- قد يكون مقبولًا في دول الخليج أو أوروبا، لكنه بالتأكيد ليس مناسبًا للقراء المصريين حتى لمن يُعتبرون “مقتدرين”. وأردف “أعلم أن أسعار الورق ومستلزمات الطباعة ارتفعت، ولكن من الضروري أن يكون هناك إحساس بالواقع الاقتصادي للبلد الذي تُباع فيه الكتب حتى يكون المعرض فرصة حقيقية لترويج الثقافة وليس فقط للربح المادي”.

يتفق العديد من المؤلفين مع هذا الرأي، من بينهم الكاتب والقاص الدكتور عاطف سليمان، الذي يروي تجربته مع الأسعار المرتفعة قائلاً إنه أراد شراء كتاب فوجده معروضًا بسعر 1200 جنيه، معلقًا باستنكار “من يستطيع شراء كتاب بهذا السعر؟”. وأوضح أنه رغم تمتع الكتاب بطباعة فاخرة وإخراج بصري مميز، فإن هذا السعر يجعله بعيدا عن متناول أغلبية القراء، مضيفا أن:

“النخبة فقط هي التي قد تشتريه، لكنها في الغالب ستضعه كقطعة ديكور في المنزل بدلًا من قراءته”.

وأكد سليمان أن أي كاتب لا يكتب للنخبة فقط، بل يحلم بأن تصل أعماله إلى أوسع شريحة من الجمهور، خاصة الفقراء ومحدودي الدخل، مضيفا أن الأدب والفكر يجب أن يكونا متاحين للجميع، وليس مجرد رفاهية يقتصر امتلاكها على من يستطيعون دفع ثمنها. وقال “نحن نكتب من أجل هؤلاء، من أجل أن تصبح حياتهم أكثر جمالًا، فكيف يمكن أن تصل إليهم الكتب في ظل هذه الأسعار؟”.

تسعير الكتاب لا يقتصر فقط على تكلفة الطباعة، بل يشمل عدة عوامل أخرى مثل حقوق المؤلف، الضرائب، مصاريف النقل والسفر، والتي تؤدي مجتمعة إلى رفع الأسعار رغمًا عن الناشرين

بين موجة الغلاء وقدرة الشراء

وينقسم النقاش حول ارتفاع أسعار الكتب في معرض القاهرة الدولي للكتاب بين ناشرين يدافعون عن ضرورة مواكبة التكاليف المتزايدة، وقراء يعبرون عن استيائهم من الأسعار التي أصبحت تفوق قدراتهم الشرائية، ويبرز التساؤل حول إمكانية تحقيق التوازن بين التكلفة العالية للإنتاج والحاجة لجعل المعرفة في متناول الجميع.

يقول رضا عوض، صاحب دار “رؤية” للنشر، إن ارتفاع أسعار الكتب ليس مشكلة محلية فقط، بل هي موجة عالمية تجتاح سوق النشر في مختلف الدول حتى في البلدان الغنية، حيث يعاني الناشرون والقراء على حد سواء من الارتفاع المستمر في الأسعار. ويضيف أن هذا الواقع لن يتغير قريبًا، مؤكدا أنه لا يؤيد المبالغة في الأسعار لكنه في الوقت ذاته يرى أن هناك تفاوتا بين دور النشر، فبعضها يبالغ في تسعير الكتب، في حين يحرص البعض الآخر على تقديم أسعار تناسب أصحاب الدخل المتوسط، حيث يبلغ متوسط سعر الكتاب في المعرض نحو 300 جنيه، وهو مبلغ يراه مقبولًا مقارنة بتكاليف الإنتاج.

وأوضح عوض أن تسعير الكتاب لا يقتصر فقط على تكلفة الطباعة، بل يشمل عدة عوامل أخرى مثل حقوق المؤلف والضرائب ومصاريف النقل والسفر، والتي تؤدي مجتمعة إلى رفع الأسعار رغمًا عن الناشرين. وأشار إلى أن ضعف الإقبال على شراء الكتب في المعارض يؤدي إلى خسائر محتملة، ومع ذلك يحرص الناشرون على المشاركة في المعارض العربية ليس فقط لبيع الكتب، بل أيضًا لتبادل العناوين مع الناشرين الآخرين، حيث يتم جلب إصدارات غير متوفرة في الأسواق المحلية، مما يتيح للمصريين الحصول على كتب من المغرب أو العراق مثلًا، والعكس صحيح. ويرى أن التبادل الثقافي بهذه الطريقة يساعد في تقليل الخسائر، ويضمن استمرار صناعة النشر رغم التحديات.

كتب سور الأزبكية من مختلف فنون المعرفة.jpg

في جولة بين أروقة المعرض، كانت آراء الزوار متباينة لكن معظمها عبّر عن إحباط واضح من الأسعار. يقول أحمد عبد العظيم، طالب في كلية التجارة بجامعة عين شمس، “أسعار الكتب أصبحت تفوق طاقة أي شاب حتى لو كانت أسرته ثرية. عندما أذهب لشراء رواية مرشحة لجائزة البوكر، أجد أن سعرها يتعدى 400 جنيه، وهو مبلغ يساوي تقريبًا ميزانيتي الشهرية. في النهاية، أعود بلا كتب، وأضطر للذهاب إلى صالة سور الأزبكية، حيث يمكنني شراء عشر روايات بهذا المبلغ بدلًا من واحدة فقط”.

أما يوسف شعبان، طالب في كلية الهندسة، فيرى أن الأسعار تجاوزت كل التوقعات، قائلا:

“شهدنا ارتفاعًا متزايدا في أسعار الكتب، لكن هذا العام وصلت إلى مستويات غير معقولة. أصبح من المعتاد أن أسأل عن رواية أو كتاب فيكون سعره عدة مئات من الجنيهات، وفي السنوات السابقة لم يكن السعر يتجاوز 100 جنيه”.

وأشار إلى أنه وأصدقاؤه يتعاملون مع زيارة المعرض على أنها “نزهة ثقافية” أكثر منها فرصة فعلية لشراء الكتب، موضحًا أنهم يكتفون بالتجول بين الأجنحة، وإذا وجدوا كتابًا أو اثنين بأسعار معقولة يفضلون شراءهما من هيئة الكتاب (حكومية)، حيث تبقى الأسعار أقل من المكتبات الخاصة. وأوضح أن أسعار الكتب في هيئة الكتاب ارتفعت بدورها، فرغم أنها كانت تُباع بخمسة أو عشرة جنيهات في السنوات الماضية، فإن الإصدارات الجديدة أصبحت تتجاوز 100 جنيه، مما يعكس أن ارتفاع الأسعار ليس مقتصرًا على مصر فقط، بل هو جزء من موجة عالمية تؤثر على سوق النشر بأكمله.

سور الأزبكية ينافس صالات الناشرين في معررض القاهرة للكتاب .jpg

سور الأزبكية.. الملاذ الأخير من ارتفاع الأسعار

في أروقة سور الأزبكية، حيث تتكدس الكتب فوق بعضها بعضا، يشهد الجناح المخصص للكتب القديمة إقبالًا غير مسبوق من الزوار الذين يبحثون عن كنوزهم الأدبية وسط أكوام من المجلدات التي تبدأ أسعارها من 5 جنيهات وحتى 50 جنيهًا، بينما يعرض البعض كتبًا بأسلوب جديد يعتمد على البيع بالوزن، حيث يصل سعر الكيلوغرام من الكتب إلى 100 جنيه. في هذا المكان، يجد القراء متنفسًا وسط موجة ارتفاع الأسعار التي تجتاح سوق النشر، ليصبح سور الأزبكية طوق نجاة حقيقيًا لعشاق القراءة.

يتحدث أحمد فتحي، صاحب إحدى المكتبات في سور الأزبكية، عن استعداد المكتبات كل عام لمعرض القاهرة للكتاب بحشد الكتب الأكثر طلبًا من القراء، خاصة الكتب الحديثة التي صدرت في الأعوام الأخيرة بأسعار مرتفعة، حيث يتم بيعها هنا بأسعار تتراوح بين 30 و50 جنيهًا فقط. إضافة إلى ذلك، يوفر السور الكتب القديمة التي توقفت دور النشر عن إصدارها، إما بسبب نفاد طبعاتها وإما نتيجة وفاة أصحاب المكتبات التي كانت تحتفظ بها. ويؤكد فتحي أن سور الأزبكية لا يقل أهمية عن دور النشر الكبرى، حيث يلعب دورًا رئيسيا في إتاحة الكتب بأسعار معقولة لجمهور لا يستطيع تحمل تكاليف الإصدارات الحديثة.

في سور الأزبكية إقبال على الكتب من كل الأعمار .jpg

من جانبه، يعبر فتحي محمد، صاحب مكتبة “محمد صلاح”، عن استيائه مما يصفه بـ”العداء الشديد” الذي تواجهه مكتبات سور الأزبكية من قبل اتحاد الناشرين وهيئة الكتاب. ورغم أن المكتبات تقدم خدمة لا غنى عنها للقراء المصريين بتوفير الكتب النادرة بأقل الأسعار، فإن أصحابها يشعرون بالعزلة داخل المعرض، إذ يتم تخصيص جناح لهم في موقع بعيد وضيق يفتقر إلى الخدمات الأساسية، حتى دورات المياه غير متوفرة بالقرب منهم، مما يجبرهم على الذهاب إلى الصالات الرئيسية للاغتسال والصلاة. ويشير إلى أن إيجارات مساحات العرض في سور الأزبكية أعلى من نظيرتها في صالات الناشرين، حيث يتم احتساب 9 أمتار بسعر 18 ألف جنيه، في حين تدفع دور النشر الكبرى 16 ألف جنيه فقط للمساحة نفسها، رغم الفارق الكبير في الإمكانيات المتاحة لكل منهما.

أما محمود أحمد، صاحب مكتبة “الرحمة”، فيشير إلى الصعوبات التي يواجهها أصحاب المكتبات، ليس فقط بسبب موقعهم داخل المعرض، بل أيضًا بسبب سوء التجهيزات. فحوامل الكتب الخشبية غير متينة وتنكسر بسهولة، مما يزيد من صعوبة عرض الكتب بطريقة منظمة. ورغم هذه التحديات، يرى محمود أن سور الأزبكية لا يزال يقدم فرصة رائعة لبيع الكتب القديمة والجديدة بأسعار تنافسية، مما يثير امتعاض بعض الناشرين الذين يتهمون مكتبات السور بتزوير الكتب فقط لأنها تبيع النسخ المستعملة بأسعار أقل بكثير من الإصدارات الجديدة.

وعلى الجانب الآخر، يرى حسام محمد، صاحب مكتبتي “البندقية” و”كنوز”، أن هيئة الكتاب توفر للمكتبات أسعار إيجار معقولة، وأنها فرصة تجارية رابحة، إذ تحقق بعض المكتبات مبيعات تصل إلى آلاف الجنيهات يوميا، مشيرًا إلى أن المعرض يمثل موسمًا ذهبيا لأصحاب المكتبات، حيث يتخلصون من تكدس الكتب في مستودعاتهم، مما يحقق لهم مكاسب جيدة رغم المصاعب اللوجستية التي يواجهونها.

يزور المعرض سنويًا لشراء الروايات وبعض الكتب للقراءة الحرة، إلا أن الأسعار المرتفعة في الأجنحة الأخرى تجعله يتجه مباشرة إلى سور الأزبكية

“الأسعار نار” والشباب يبحث عن البدائل

وفي جولة داخل سور الأزبكية، التقينا بعدد من الشباب الذين أكدوا أن هذا الجناح يعد الوجهة المفضلة لهم، حيث يجدون الكتب بأسعار أقل من نظيراتها في دور النشر الكبرى. يقول فارس إبراهيم، طالب بكلية التمريض، إنه يزور المعرض سنويًا لشراء الروايات وبعض الكتب للقراءة الحرة، إلا أن الأسعار المرتفعة في الأجنحة الأخرى تجعله يتجه مباشرة إلى سور الأزبكية، حيث يمكنه شراء كتب تتراوح أسعارها بين 10 و100 جنيه فقط، مؤكدًا أنه يجد في هذا المكان ملاذًا حقيقيا لعشاق القراءة الذين لا تسمح لهم ميزانياتهم بشراء الكتب الحديثة.

جناح مؤسسة كتارا الحي الثقافي القطري في معرض القاهرةة للكتاب

أما سيف الدين إسماعيل، طالب في كلية الحاسبات، فيرى أن زيارة المعرض أصبحت نزهة أكثر منها تجربة لشراء الكتب، إذ يتفق مع أصدقائه على قضاء يوم في التجول بين الأجنحة ومشاهدة العناوين الجديدة، لكنه يؤكد أن عادة القراءة لم تعد كما كانت لدى الأجيال السابقة. يقول إسماعيل:

“كان والدي ووالدتي من عشاق القراءة، لكنني وأشقائي لا نشاركهم هذا الشغف. بدلاً من الكتب، نجد متعتنا في الهواتف الذكية وألعاب الفيديو ومشاهدة التلفزيون”.

تنتهي جولتنا في المعرض وسط حشود ضخمة من الزوار، البعض يخرج محملاً بالكتب، والآخر يكتفي بالتجول دون شراء، لكن المشهد العام يثبت أن الكتاب، رغم كل التحديات، لا يزال مستقرًا على عرش الثقافة والفكر، ليس في مصر وحدها، بل في كل أنحاء العالم. ورغم انتشار النشر الإلكتروني والتغيرات التي فرضتها التكنولوجيا، فإن الكتاب الورقي يظل خير جليس، يحتفظ بمكانته الفريدة في حياة من لا يزالون يؤمنون بأن القراءة هي مفتاح المعرفة والتنوير.

شاركها.
اترك تعليقاً

2025 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.