احتفلت كاتدرائية “نوتردام” في باريس، أواخر مايو/أيار الماضي، بمباركة 8 أيقونات شرقية، تمثل طلائع القديسين في التاريخ المسيحي المبكر، تم مسحها بـ”الميرون المقدس” (مزيج من زيوت طبيعية وعطرية) قبل أن تأخذ مكانها داخل الكاتدرائية في مصلى القديس جورج مار جرجس، أحد رواد المسيحية المبكرة في فلسطين.

ومن بين الأيقونات الثماني التي احتفلت نوتردام بمباركتها، أيقونة رسمها الفنان السوري نعمت بدوي للقديس أغناطيوس الأنطاكي، أبرز آباء الكنائس الأوائل.

ويرى رئيس أساقفة باريس، المطران لوران أولريش، أن هذه الأيقونات ليست مجرد صور، بل “نوافذ حقيقية على الأبدية وعلامة صادقة على إيمان الكنيسة جمعاء”.

بدوره أشار الفنان بدوي إلى أن الأيقونة التي رسمها، استغرق إنجازها نحو 3 أشهر. ورأى أن نجاح عمله يعود إلى مدينته حلب، التي منحته كل خبرتها الطويلة في الفنون، وكل أساليبها في التعبير والتشكيل.

وتحمل أيقونة القديس أغناطيوس قيمة روحية عميقة، مستمدة من المكانة التي تقلدها بحسب النصوص المقدسة.

ويعتقَد -وفق السرديات المسيحية- أنه كان من بين الأطفال الذين حضنهم المسيح، وقال عنهم “دعوا الأولاد يأتون إليّ”.

وفي فترة اضطهاد المسيحيين الأوائل، ألقي القبض عليه في أنطاكيا، واقتيد إلى روما، ثم ألقي على أرض المدرج الروماني في زمن الإمبراطور “ترايان” عام 107 لتنهش الوحوش جسده.

ونقل عنه قوله قبل إلقائه في المدرج “دعوني أكون طعاما للوحوش، فإنني برحمة الله أود أن أُدعى قمح الله، حتى أُطحن بأنياب الوحوش فأصير خبزًا نقيًا للمسيح”.

انسجام لا يكتفي بالنظر

ويستخدم مصطلح “الأيقونة” أو “الصورة المقدسة” للدلالة على أفكار أو أحداث دينية، جرى تجسيدها مشبعة بالتفاصيل على شكل لوحات تحمل الطابع الروحي، تنتشر على جدران الكنائس وفي قاعاتها على نطاق واسع، حيث تسرد قصص أنبياء وقديسين، وتُستخدم كوسيلة لتعليم الدين في آن معًا.

وتشير مصادر تاريخية، إلى أن الأيقونة دخلت إلى الحياة المسيحية في سوريا، خدمة لأفكار تخاطب الروح بهدف التأمل والانسجام في إيحاء لا يكتفي بالنظر.

ورسخ القديس يوحنا الدمشقي -بشكل خاص- هذا الخطاب بنص روحي قال فيه “عندما تضطرب خواطري وتمنعني عن التركيز الفكري أتجه نحو الكنيسة أتأمل في أبعاد الأيقونات السماوية التي تفتن أنظاري، هذه اللوحات المقدسة تجذبني، وتسمو بي، وتحثني على تمجيد الخالق، فأسترجع السكون والصفاء”.

وتضم كنائس سوريا أيقونات كثيرة من أشهرها أيقونة القديس حنانيا الدمشقي (من القرن الأول الميلادي)، أحد الرسل السبعين الذين أرسلهم المسيح لنشر دعوته، إلى جانب أيقونتين إحداهما للمسيح والأخرى للقديس بولس الرسول، تتوزع جميعها داخل ما يعتقد أنه البيت الذي عاش فيه الرسول حنانيا في دمشق، وتحول لاحقًا إلى كنيسة صغيرة، هي اليوم من أقدم الكنائس الموجودة في العالم.

من الوثنية إلى الدين

ترى الباحثة في علم التاريخ، إلهام محفوظ، أن فن الأيقونة يعود إلى ما قبل المسيحية في عصريها اليوناني والروماني، عندما قام الفنانون برسم الوجوه الإنسانية على لوحات خشبية، لكن الكنيسة البيزنطية اعتمدته كأداة إقناع وتأمل وخشوع، من أجل قلب المعتقدات الوثنية، وإحلال مفهوم الدين المسيحي مكانها.

وأوضحت في تصريحات نقلتها وكالة الأنباء السورية الرسمية أن هذا الفن ترعرع في بلاد الشام وتأثر بالفن السوري القديم بما فيه الفن التدمري، فمنذ ولادة الدولة البيزنطية في القرن السادس الميلادي، بدأت تظهر تزيينات تصويرية من الفسيفساء والفرسك داخل المعابد والكنائس، مثلت بداية نشوء فن الأيقونات، حيث كانت في الغالب ترسم على لوحات من الخشب، ضمن إطار نحاسي، تعكس مواضيعها الموروث الشعبي والعقائدي والروحاني لشعوب المنطقة.

وكان قد عثر في “دير مار يوحنا” ببيت زغبا شمال سوريا، على إنجيل سرياني يعود تاريخه إلى القرن السادس الميلادي، زُينت صفحاته برسوم أيقونية.

كما تعد الرسومات الجدارية في كنائس “دورا أوريوس” والرسوم الجدارية في دير “مار موسى الحبشي” في النبك، ورسومات دير “مار يعقوب المقطع” في قارة، والرسومات الموجودة في دير “مار إلياس الحي” بمعرة صيدنايا، وأيقونة سيدة دمشق التي انتقلت إلى مالطا في أواخر القرن الخامس عشر الميلادي، وأيقونة العذراء والأمين، من أهم الرسومات الجدارية التي شكلت الجذور الأولى لهذا الفن.

ولفتت الباحثة محفوظ إلى أن أيقونة “نوغرافيا ” التدمرية، بما فيها من تقنيات خلط الألوان، وأساسات مكونة من الجص والرمل والمنغنيز، والتراكيب المعدنية كأكسيد الحديد بلونه الأحمر والأسود، المنفذة بدون استخدام رابط عضوي، ذات أهمية مميزة.

ايقونة من دير مار موسى في سوريا Original image by James Gordon

الجسد والذهب

وألقت مباركة كاتدرائية نوتردام للوحة القديس أغناطيوس التي انتقلت من حلب إلى باريس الضوء مجددًا على عراقة هذا الفن، الذي تفردت سوريا به على غيرها من الدول، وأسهمت بنقله إلى العالم في وقت مبكر من التاريخ.

وكانت باريس قد شهدت في أبريل/نيسان الماضي، مؤتمرا دوليا بعنوان (بالجسد والذهب) دعت إليه مجموعة أصدقاء متحف اللوفر، تناول فيه خبراء وباحثون من أوروبا والولايات المتحدة الأميركية والشرق الأوسط (سوريا ولبنان) فن الأيقونة والمناهج المتجددة في التعامل معه.

كما ناقش المؤتمر الذي تقاسمت جلساته على مدار يومين قاعة مايكل أنجلو في متحف اللوفر وقاعة غيوم بودي في كلية فرنسا آفاق هذا الفن وانفتاحه على منهجيات وتواريخ وجغرافيات جديدة.

وقدم الفنان السوري بدوي مداخلة خلال الجلسة التي عقدت بمتحف اللوفر، استعرض فيها تاريخ الأيقونة في سوريا، والأضرار التي لحقت بإرثها التاريخي والثقافي خلال الحرب، والطريقة المتبعة في ترميمها.

ويحتفظ المتحف بمجموعة نادرة من الأيقونات الشرقية التي رسمها فنانون من سوريا ولبنان وفلسطين، في سياق إحياء كنيسة أنطاكيا اليونانية خلال القرن السابع عشر.

كما استحوذ اللوفر في أوائل هذا العام على مجموعة مهمة من الأيقونات بلغ عددها نحو 272 أيقونة متنوعة، جمعها اللبناني جورج أبو عضل، وعرضت لأول مرة في متحف “كارنافاليه” في باريس عام 1993، ثم عرضت في متحف الفن والتاريخ في جنيف عام 1997.

في حين تضم المكتبة البيزنطية في كلية فرنسا مجموعة من الأيقونات العربية تعود لفترات تاريخية متنوعة، استحوذت عليها بين عشرينيات وخمسينيات القرن الماضي.

من جهتها أوضحت أستاذة علم الآثار الكلاسيكي وتاريخ الفن البيزنطي في الكلية، الباحثة نينا لامانيدز، أن الأيقونة هي توليفة دقيقة من التقنية الفنية واللاهوت والسرد البصري، اتبع إنتاجها الذي يعتبر عملًا مقدسًا قواعد صارمة، ونفذت باستخدام مواد وأعمال محددة من قبل فنانين مهيئين روحيًا وفنيًا. وأشارت إلى أن ترميم الأيقونة ليس مجرد عمل فني، بل عملية معقدة، تنطوي على تأمل عميق للحفاظ على المغزى الروحي للوحة.

ولفتت في دراسة لها بعنوان “أيقونات المكتبة البيزنطية في كلية فرنسا، إرث من الفن المقدس” إلى أنه على الرغم من أن أيقونات المجموعة الثمينة للمكتبة تعود إلى فترة ما بعد العصر البيزنطي، ولم تكن متداولة في الإمبراطورية البيزنطية نفسها، إلا أنها بلا شك تنتمي إلى هذه الحضارة، وتأتي من مناطق وثيقة الصلة بالإمبراطورية، وهي بذلك جزء من تراث مشترك.

المعرفة الغائبة

وقد حظي التراث المشترك بين الحضارة الأوروبية بمختلف مراحلها ومنابع المعرفة في الشرق العربي – الإسلامي، وتأثير إبداعاته الحضارية العلمية والفنية والمعمارية في فرنسا وبريطانيا وإسبانيا، باهتمام بحثي جاد، كانت نتائجه تتوافق على الدوام مع نظرية تأثر الغرب بالأصول الشرقية في كثير من المناحي.

وقدمت المؤرخة والأكاديمية البريطانية ديانا دارك نموذجًا أكثر وضوحًا عن هذا التأثر، حين أكدت أن المباني الغربية الأكثر شهرة في أوروبا، مثل كاتدرائية نوتردام و”كاتدرائية شارتر في فرنسا، ومجلسي البرلمان ودير وستمنستر في لندن، وكاتدرائية سان مارك في البندقية، وكاتدرائية ستراسبورغ، وكاتدرائية آخن في ألمانيا، أخذت تصاميمها جميعًا من أصول عربية، وعربية إسلامية، من خلال تبادل ثقافي هائل، معظمه جاء من الشرق إلى الغرب، في حين أن القليل ذهب في الاتجاه المقابل.

ونفت دارك أن تكون تصاميم هذه المعالم عائدة إلى التراث القوطي والتاريخ المسيحي الأوروبي كما يتم الافتراض دائما، وإنما تدين في تصميمها لأصول إسلامية وتأثيرات عربية واضحة.

وأوضحت في كتابها “السرقة من المسلمين.. كيف شكلت العمارة الإسلامية أوروبا” أن تصميم كاتدرائية نوتردام المعماري، مثل جميع كاتدرائيات أوروبا، قد استلهم من كنيسة قلب لوزة في سوريا، عندما جلب الصليبيون أسلوب البرجين المتماثلين على طرفي النافذة الوردية إلى أوروبا في القرن الـ12 الميلادي.

وتقع كنيسة قلب لوزة في محافظة إدلب ضمن منطقة ما يعرف بالمدن المنسية في سوريا، وقد بنيت في القرن الخامس الميلادي. وتعتبر نموذجًا أوليًا تطور عنه لاحقًا فن العمارة الرومانية والبيزنطية. كما أدرجت في عام 2011 على قائمة التراث العالمي لليونسكو.

ورأت دارك أن الكثير من المعالم الأثرية في سوريا، وأماكن أخرى في الشرق الأوسط، تقف شاهدة على انتقال الخصائص المعمارية من الشرق إلى الغرب، ومنها الكنائس الرومانية في أوروبا، معبرة عن اعتقادها بأن الناس يعرفون ذلك، ولكن -كما تقول- يبدو أن هناك فجوة كبيرة من الجهل بشأن تاريخ الاستيلاء الثقافي على خلفية تصاعد ظاهرة الإسلاموفوبيا.

وتساءلت “هل نحن مستعدون للاعتراف بأن أسلوبًا ترسخ عميقًا في هويتنا المسيحية الأوروبية يدين بأصوله إلى العمارة الإسلامية؟”.

شاركها.
اترك تعليقاً