حلت أمس الجمعة الذكرى المئوية لصدور قصة “شاهد إثبات” لأغاثا كريستي، التي تعد حبكة مشوقة لساردة بارعة لم تكتفِ بإعادة تشكيل الرواية البوليسية، بل رفعتها إلى مستوى عالمي لم يسبق له مثيل.

كريستي، التي وُلدت عام 1890 في جنوب إنجلترا، لم تكن مجرد كاتبة غزيرة الإنتاج، بل كانت أيضا مبتكرة في بناء الحبكات وتحريك الشخصيات داخل دوائر من الألغاز المترابطة. في وقت كانت فيه الرواية البوليسية تعجّ بالمحققين التقليديين وأسرار الجرائم النمطية، جاءت كريستي بشخصيات مثل هيركيول بوارو المحقق البلجيكي ذو الشارب الدقيق، وميس ماربل العجوز الذكية التي تحلل الجرائم بنظرة ثاقبة مستمدة من الحياة اليومية، لتحدث ثورة في هذا اللون الأدبي.

تعتبر “شاهد إثبات” (Witness for the Prosecution) واحدة من أكثر القصص إتقانا وإثارة في مسيرة أغاثا كريستي، إذ تجمع بين التشويق القانوني والالتواءات الدرامية التي تضع القارئ والمشاهد في حيرة مستمرة حتى اللحظة الأخيرة. وما يميز هذه القصة ليس فقط الغموض المحيط بجريمة القتل، بل الطريقة التي تلعب بها كريستي على أوتار الإدراك البشري، حيث يتبدل مسار الحقيقة بلمحة عين، ويتحول البريء إلى مدان، والمجرم إلى ضحية، مما يجعلها واحدة من أعظم القصص التي تناولت المحاكمات القضائية في الأدب.

عندما نُشرت لأول مرة عام 1925 تحت عنوان “أيادٍ خائنة” (Traitor Hands)، لم تكن سوى قصة قصيرة ضمن مجموعة أعمالها الأولى، لكن سرعان ما أدرك النقاد والقراء أن هذه القصة تحتوي على مقومات درامية استثنائية، وهو ما دفع كريستي لاحقا إلى إعادة تقديمها في شكل مسرحية عام 1953، ثم اقتُبست إلى السينما بعد 4 سنوات في فيلم أخرجه بيلي وايلدر، ليصبح من أبرز الأفلام الكلاسيكية في تاريخ هوليود.

حبكة مستوحاة من عبقرية الخداع

تكمن عبقرية “شاهد إثبات” في بساطة الفرضية وتعقيد التفاصيل، إذ تدور القصة حول شاب يُدعى ليونارد فاول يُحاكم بتهمة قتل أرملة ثرية، في حين تعتمد براءته بالكامل على شهادة زوجته كريستين، التي من المفترض أن تكون أكبر داعم له، لكنها تتحول إلى أخطر شاهد ضده. وبينما يعتقد الجميع أن الأدلة قاطعة، فإن كريستي، بأسلوبها البارع، تفاجئ القارئ والمنصة القانونية بمفاجآت غير متوقعة، تقلب موازين القضية رأسا على عقب.

هذه القصة لا تُعد مجرد عمل بوليسي، بل هي دراسة عميقة للطبيعة الإنسانية: كيف يمكن للخداع أن يكون وسيلة نجاة؟ وكيف تؤثر العواطف في الحكم على الحقيقة؟ تجسّد القصة صراعا خفيا بين الحب والواجب، بين الولاء والخيانة، وبين القانون والعدالة، لتضع القارئ أمام تساؤل وجودي: هل يمكن للعدالة أن تتحقق فعلا، أم أنها مجرد وهم يعتمد على براعة من يحكي القصة؟

مع نجاح القصة في صورة العمل المسرحي، كان من الطبيعي أن تنتقل إلى الشاشة الفضية، إذ قام المخرج الكبير بيلي وايلدر في عام 1957 بتحويلها إلى تحفة سينمائية، شارك في بطولتها تايرون باور، وتشارلز لوتون، ومارلينه ديتريش. لم يكن الفيلم مجرد اقتباس للقصة الأصلية، بل كان إعادة إبداع لها، إذ أضفى وايلدر لمسات من الإثارة والدراما جعلت المشاهدين يعيشون أجواء المحاكمة بكل توترها وتعقيداتها.

ورغم مرور عقود على صدوره، فلا يزال الفيلم يحتفظ بمكانته بوصفه أحد أعظم الأفلام القانونية في تاريخ السينما، إذ يتقاطع فيه الأداء المذهل للممثلين مع الحوار الذكي والسيناريو المشدود، ليُقدَّم نموذجا نادرا للدراما القانونية التي تجمع بين التشويق النفسي والسرد السينمائي الرفيع.

مسرحية لندنية

وما زال عرض مسرحية “شاهد إثبات” من إنتاج لويد مستمرا منذ 8 سنوات في لندن. ولكن بدلا من عرضها في المسرح، يجري تقديمها في قاعة مقاطعة لندن، وهي مبنى حكومي سابق يسمح للجمهور بالجلوس كما لو كانوا في قاعة محكمة.

وقالت لويد “لا يوجد شيء مخيف في الأمر من وجهة نظر الجمهور. كل ما في الأمر أنكم تخوضون التجربة في وضع مختلف”.

وأعدت كريستي -كاتبة الروايات البوليسية الأكثر مبيعا في العالم، إذ بيع ما يقدر بنحو ملياري نسخة من رواياتها مترجمة إلى 44 لغة- بنفسها النص لتحويله إلى عمل مسرحي قُدم أول عروضه عام 1953. وبعد بضع سنوات في 1957، تم تحويل النص إلى فيلم من إخراج بيلي وايلدر وبطولة مارلينه ديتريش وتشارلز لوتون وتايرون باور. وحولتها هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي) إلى مسلسل تلفزيوني عام 2016.

وقالت لويد في حديثها عن جاذبية الرواية الدائمة إنها تتطرق إلى بعض الموضوعات الخالدة عن “إصدار البشر أحكاما بعضهم على بعض”.

وتوفيت كريستي عام 1976، لكن أعمالها لا تزال حاضرة بقوة.

من المقرر عرض مسرحية “شاهد إثبات” على خشبة المسرح حتى 28 سبتمبر/أيلول 2025.

وزارت أغاثا كريستي كثيرا من المناطق في العالم، مما أثرى تجربتها الروائية، من مصر إلى العراق إلى سوريا والأردن وفلسطين وإيران، وكل هذه الأماكن نجد لها صدى في رواياتها، إذ تحدثت عن مدينة البتراء والمسجد الأقصى وقبة الصخرة وذكرت مدينة بيت لحم ومنطقة الجزيرة السورية وتحدثت عن نهر النيل ومعابد الأقصر وأدمجت حضارة الفراعنة في بعض أعمالها.

كما زارت بغداد ومدينة أور الأثرية عاصمة الدولة السومرية، واشتهر بيت شعبي لها في العاصمة العراقية كانت تهوى المكوث فيه، وفيه كتبت بعض نصوصها، وصنفته وزارة الثقافة العراقية ضمن البيوت التراثية التي يمنع هدمها أو التعديل عليها.

شاركها.
اترك تعليقاً

2025 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.