في ذاكرة الفن السعودي يتألق اسم طه الصبان واحدًا من أعمدته الراسخة، ليس لأنه قدّم لوحات تحاكي الروح والذاكرة فحسب، بل لأنه جسد معنى الفنان المعطاء الذي يهب فنه ووقته وماله لخدمة الجمال. أكثر من 50 عاماً وهو يلون ملامح جدة، ويمنح الحجاز حضورًا خالدًا على القماش وفي الميادين، محتضنًا أجيالًا من الفنانين الشباب، ومؤمنًا أن الميدان لهم، وأن دوره أن يفتح لهم النوافذ نحو الضوء. بين دفء الألوان وصدق العطاء صنع الصبان مدرسة فنية وإنسانية سيبقى أثرها حاضرًا في الوجدان قبل الجدران.

طه محمد صالح الصبان أيقونة الفن التشكيلي السعودي وواحد من أعمدته الراسخة منذ أكثر من نصف قرن، لم يكن مجرد فنان يرسم لوحات فقط، بل كان روحًا متوهجةً بالجمال ويدًا سخيّةً بالعطاء وعقلًا متقدًا بالإيمان بدور الفن في تشكيل ملامح الوطن وهويته البصرية.

ولد في مكة المكرمة عام 1948، لكنه اختار جدة لتكون مسرحًا لأعماله ومشاريعه، فكان أحد أهم من أسهموا في صياغة جمالياتها عبر ميادينها ومجسماتها التي تحولت مع الزمن إلى علامات حضرية وثقافية.

منذ بداياته حمل الصبان رؤية واضحة بأن الفن رسالة تتجاوز حدود القماش والألوان إلى فضاء أوسع يلامس المجتمع وذاكرة المكان. أسلوبه التشكيلي يمتاز بثراء لوني عميق وجرأة في التكوين، إذ تنبض لوحاته بروح البحر الأحمر وأزقة جدة القديمة وعراقة التراث الحجازي ممزوجة بلمسة معاصرة تمنح العمل بعدًا زمانيًا ممتدًا. هذا المزج بين الأصالة والحداثة جعل أعماله قادرة على مخاطبة وجدان المشاهد مهما اختلفت خلفياته.

يصعب النظر إلى أعمال طه صبان دون أن نرى فيها نوافذ مشرعة على الحنين تستحضر ذاكرة الطفولة ومكان النشأة في مكة المكرمة والحجاز، وتعيد صياغتها بأسلوب تعبيري يمزج بين الموروث والحداثة. لوحاته تختزل الأشكال وتستطيل الشخوص في فضاءات أسطورية، بينما تتناغم العلاقات اللونية بين الحارة والباردة لتخلق إيقاعًا بصريًّا نابضًا. يعيد صبان إنتاج المكان والإنسان بروح متجددة محافظًا على جوهر الهوية البصرية وموروث العمارة الحجازية من الرواشين والمشربيات إلى ألوان الأسواق وحركة الموانئ. أعماله ليست محاكاة جامدة، بل أحلام تشكيلية تحفظ الذاكرة، وتستفز التأمل، مؤكدة أن الفن عنده حارس للهوية ومرآة للإنسان.

عظمة طه الصبان لا تكمن في فنه وحده، بل في شخصيته التي جعلت منه أبًا ومرشدًا وداعمًا لأجيال من الفنانين منذ أكثر من 50 عامًا وهو يفتح قلبه وبيته ومرسمه للفنانين الشباب، يمنحهم من خبرته ومعرفته بلا حدود، ويشجعهم على خوض التجربة، مؤكدًا أن الميدان لهم، وأن دوره هو أن يكون الجسر الذي يعبرون عليه نحو آفاق أوسع. لم يكن يكتفي بالكلمة الطيبة، بل كان يدعم بالمال والفكرة ويسهم في إقامة المعارض وابتكار المبادرات ورعاية المشروعات الفنية التي تثري الساحة التشكيلية.

عُرِف الصبان بكرمه الإنساني قبل عطائه الفني فهو رجل يفيض ودًّا وخلقًا، ينصح بحب، ويستمع بصبر، ويمنح كل من حوله شعورًا بأنهم موضع اهتمامه ورعايته. هذا السلوك النبيل جعله يحظى بمحبة واحترام الجميع من زملائه الفنانين إلى النقاد والجمهور حتى صار اسمه مرادفًا للنبل والوفاء في الوسط الفني.

بصماته على جمال جدة لا يمكن إغفالها، فقد كان حاضرًا في معظم مشاريع المجسمات والميادين التي منحت المدينة وجهًا جماليًا متفردًا، وأسهم في جعل الفن التشكيلي جزءًا من الحياة اليومية للناس لا حكرًا على صالات العرض. هذه الرؤية الاستباقية جعلت جدة تتزين بأعمال فنية تحاكي روحها البحرية وتراثها العمراني وتبقى شاهدة على إبداعه وفلسفته.

اليوم وبعد مسيرة حافلة تمتد لعقود يظل طه الصبان أبرز وأهم فنان سعودي في هذا العصر، ليس فقط لأنه أنتج أعمالًا خالدة، بل لأنه شكل بيئة حاضنة للفن والفنانين وغرس في الساحة التشكيلية قيم التعاون والإبداع والالتزام. هو بحق فنان عملاق يختصر في شخصه معنى الريادة، ويثبت أن العطاء حين يقترن بالفن يترك أثرًا خالدًا في الذاكرة والوجدان.

وهكذا يبقى طه الصبان شاهدًا على عصر كامل من الإبداع وركنًا راسخًا في ذاكرة الفن السعودي والعربي لم تكن رحلته مجرد مسيرة فنان، بل كانت حكاية إنسان آمن بأن الجمال رسالة وأن العطاء هو أرقى أشكال الفن. كل لوحة تركها وكل فنان دعمه وكل ميدان وجهه نحو الجمال هي فصول من إرث حي سيبقى ما بقيت جدة تتزين بألوانه، وما بقيت الحجاز تحفظ بصماته في وجدانها.

إن طه الصبان ليس فقط فنانًا كبيرًا، بل هو قصة وطن تروى بالألوان والحب.

أخبار ذات صلة

 

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version