من المآخذ الجوهرية التي سجلها الدارسون والباحثون على الحالة الشعرية الموريتانية -منذ بواكير نشأتها إلى عز عنفوانها- أنها لم تواكبها حركة نقد منهجي ذي أسس علمية منضبطة، وقواعد موضوعية مستقرة، تستجيد رائق الإنتاج الشعري، وتميز منحنى ارتجاجه من خط انسيابه، فتبرز ما استوى منه وسما، وتبدي ما نبا وند، عارضة وجوه التسويغ، كاشفة نقاط المأخذ، على بصيرة من العلمية، وهدى من المنهجية.

ولا يؤمن على “صناعة المحتوى” (الرقمي) الهادف أن يصيبها شيء من ذلك، بسبب مزاجية “الجمهور”، التي تصاحبها غلبة ثنائي “التأثر التلقائي” و”التفاعل الفوري”، وعلى هذين مدار التلقي في فضاء وسائل التواصل الاجتماعي الموار.

ومما عمت به البلوى أن واقع هذه الشبكات والمواقع (الإلكترونية) يحمل الناس على التسليم المطلق، والإعجاب غير المشروط -أو ضديهما- ويحرف مبدأ المراجعة وثابت الأخذ والرد عن مسارهما الطبيعي!

وقد استقبل جمهور هذه الوسائط منصة “الأمالي” (البرنامج والصفحة) بشعور متفاوت، بلغ أشده حين توسعت دائرة التناول، وامتد اهتمام المحتوى، ليشمل نقاطا متخصصة خارجة عن خريطة التراث العربي، ورقعة السرد الأدبي واللغوي المندرجة تحته!

الأمالي.. جدل المحتوى

بدأ التحول بوضع “الحداثة” بين مطرقة النقد الانطباعي الساخر، وسندان الاستهداف المركز، في تناول جر ذيله على “الشعر الحر” -ضمنيا على الأقل- ولم يستحْيِ “اللسانيات” من لفح تلميحه وتعريضه!

إعلان

ويمكن تقسيم الملاحظة على “الأمالي” إلى نوعين:

  1. انتقاد متحامل مراغم، يتربص بها دوائر الإيقاع، بالطعن في جدوى مُخرَجها الرسالي، حتى لقد عدها أحد خصومها من المدونين الموريتانيين -في نسخة ما قبل تناول موضوع الحداثة- عقبة كأداء في طريق التمكين للمواد العلمية، بوصفها منبرا لـ”تلميع الأدب الترفيهي وتشجيع مضمونه الفارغ، وتكريس قيم المجتمع الجاهلي المتهتكة” (والتوصيف له)، داعيا إلى دعم التخصصات العلمية ومحاصرة التخصص الأدبي، والحد من تمدد فروعه.. وكأن اللغة والعلم ضدان!
  2. نقد موضوعي، يأخذ عليها الانتقال من خدمة التراث الأدبي العربي، بعرض جماليات اللغة، وتجلية تاريخ الأدب، وإيراد أشعار العرب، واستطراد أمثالها وذكر أخبارها، والحديث عن وقائعها -وما يتصل بذلك- إلى تناول مدارس الأدب العربي الحديثة، والخوض في قضايا الأدب المعاصر، وإثارة إشكالياته المتخصّصة بأسلوب غير منهجي وتقديم انطباعي.

ويمكن ضغط المآخذ على “سياسة” الأمالي هذه في نقطة بارزة: محاكمة الحديث على شرط القديم.

ففي حلقة التحول المفاجئ التي تناولت فيها الأمالي موضوع “الحداثة” اقترح المقدّم نصب لجنة تحكيم للنظر في “الأدب الحداثي” وجعل تشكيلتها من الثلاثي “الكلاسيكي”: البارودي وشوقي وشاكر، ثم أنطق الثلاثة بأقوال وتصرفات تحكم على المحتوى الحداثي بـ”الإعدام”؛ تغليظا في القول ورميا بالرصاص!

ثم ما لبث أن حصر “الشعرية” في البحور العروضية التراثية، وإذا كان هذا التحكم واردا في باب الرأي الشخصي، فإن من غير المستساغ إطلاقه على منصة لغوية عالمية بتلك “التلقينية”، وكأنه “إعلان موقف رسمي” لا يأتيه الاعتراض من بين يديه ولا من خلفه.

ولأن التحكم والإلغائية -في اللغة والأدب- لا يمران عفوا ولا يؤذن لهما بالإقرار جزافا، حُرّرت ردود “أكاديمية”، وتعقيبات استدراكية تعاتب معد -ومقدم- مادة الأمالي في رميه الأدب “الحداثي” عن قوس استهداف مترصّدة!

إعلان

استدراك لا يفسد للود قضية

وقد وجدتُني -بمناسبة “التوسع الخطي”- أنتقل من حيز التصفح والاهتمام إلى دائرة الملاحظة والاستدراك، وفاء بحق “المتابعة”، الذي هو فرع عن حبي الفطري للسان العربي المبين، واهتمامي بـ”المادة الورقية” و”المحتوى الإلكتروني” اللذين يخرجان من مشكاة خدمة هذه اللغة، التي بها نزل الكتاب الخاتم على النبي الخاتم ﷺ.

وحتى لا أدور في “عمومية” مفرغة أذكر -بالتحديد- أن الفتى الموهوب مرّر -للمتلقي- أحكاما انطباعية ساخرة، في الحلقة التي وصف فيها ملأ الشعراء “الحداثيين” بـ”المهرجين”، وما الحداثة من “إبداع” بمانعة.

وقد اعتمد -عفا الله عني وعنه- أسلوب الإلغائية، ولو مهد لإطلاق “الحكم” النهائي الجازم بعرض “التصور” التحليلي المتماسك لكان ذلك أقرب للاستساغة وأدنى من المنهجية، ولكنه أسرف في التهكم وأغرق في التندر.

وما ينبغي له أن يتجانف لـ”الخروج على النص” دون “مستند إثبات” ناهض، ذلك بأن “إشكاليات النقد الحديث” لم تكن من “الخط التحريري” لبرنامج “الأمالي” الشائق، وإنما ساغ الاستشهاد بمقاطع اللحن الشنيع -وغرائب الفهم السقيم- التي بدت من أفواه أعضاء لجنة تحكيم مسابقة “أمير الشعراء” -على سبيل المثال- لأنها من “مضحكات العصر”، التي لا يعدم فضحها وإنكارها مساغا، فلا بأس -ولو من باب “الفاصل الترويحي”- بالتبويب عليها في “الأمالي” و”النوادر”!

أما تناول مصطلحات “الحداثة” و”اللسانيات” وأخواتها بتلك الطريقة الانتقائية العجلى فإنه يكاد يجني على عدالة “قضية” الأمالي، التي هي الذود عن حياض “الضاد”، والمنافحة عن حمى اللسان العربي المبين، وذلك مرام عظيم قمن أن لا يجرم صاحبه شنآن “الرطانة” على أن لا يعدل وينصف.

ومن رحمة الله أن جعل في الموضوعية العلمية مندوحة عن الإلغائية الانطباعية!

ولقد يدندن الفتى الفطن -في “الأمالي”- حول فكرة عامة لا غبار عليها، كإلزامية التدقيق اللغوي، وضرورة الخلو من اللحن النحوي في كتابة وتمثيل المسلسلات التاريخية العربية.

إعلان

ثم ينتقل -فجأة- من تلك العمومية الناصعة، إلى جزئية فيها نظر، فيكاد يلزم “صناع الدراما” بما لا يلزم من “المثالية”، ملغيا الفرق الجوهري بين كتابة السيناريو التمثيلي، التي تقتضي التصرف في “الأصل”، بإضافة جماليات التشويق الفني، وعناصر “التمرير الرسالي”، وأبجديات التوصيل الخطابي (في المسلسل التلفزيوني)، وبين نقل الأحداث التاريخية وفق نمطية الرواية التراثية (في الكتاب التأليفي).

وليس من المطروح فنيا -ولا من الوارد موضوعيا- أن تمثل أحداث قصة الزير سالم -مثلا- بلغة زمانها، فمرارة أسلوب “المسلسل المكسيكي المدبلج” (واللفظ له) مقدمة -فنيا- على حلاوة الاستمتاع بمفردات اللسان الجاهلي العتيق، كما وردت من المصدر -إذا لم يسعف الجمع- ولكل مقام مقال!

ولعلي لم أكن لأخرج من دائرة التلقي والتسليم لو لزمت الأمالي غرْز تبويبها الأول ولم تبرح خطها التحريري الأصلي!

وعندي أن المعد النابه والمقدم الألمعي محمد لغظف لم يزل في فسحة من منهجه -في طور تتبّع نوادر التراث الأدبي وتجلية سوانح الإشراق اللغوي- حتى أدخل التندر الاستهدافي على خط الاعتماد في مواضيع متخصصة حقها الجد في الأسلوب والعلمية في الطرح والتوازن في العرض.

المسألة الترندية وخصومة المجمع القاهري

ولعل أبرز “الملفات” التي أعملت فيها “الأمالي” سلاح الطعن التجريحي -في الشأن اللغوي البحت- “المسألة الترندية”، فقد أسقط صاحب الأمالي من تبويبه مناديح التعريب المعتمدة في المنهج المجمعي اللغوي، وركز على هاجس “الاختراق اللغوي”، فجعله مركز دوران مأخذه، مستأنسا بحالة “حساسية لغوية” مفرطة، قائمة على إغلاق باب “الاقتراض اللغوي” ومنع غزو اللفظ الدخيل.

ومن صور الإغراب ما يورده في سياق إسقاط “الحساسية اللغوية” على العربية، وتتبُّع “الموضة الأجنبية” المصاحبة، كاستدعاء حالة ترجمة اسم شركة “Apple” بمعادلها العربي “التفاحة ” حتى لا يكون الصينيون -والأمم الأخرى- أحرص على “أمنهم القومي اللغوي”!

إعلان

وقد اصطحب هذا “الإسقاط العاطفي” في مسألة “الترند”، فانتقل من الاستشهاد برفض المجتمعات الأوربية اعتماد لفظة “Trend”، إلى ترجمة الآيسلنديين اللفظة الإنجليزية بكلمة “Stefna”!.. قبل أن يتحول “النقد” من مأخذ على موقف إلى “هجو” مؤسسة.

فكان آخر المطاف شي المجمع القاهري على سفود التبكيت، وقد نشرت منصة “الأمالي” لذلك “الهجاء” بساط النشر والتدوين في حينه!

ما كل موجود مناسب

صحيح أن الأمالي -في مسألة “الترند”- لم تقف عند حد استدعاء “الحساسية اللغوية” التي دفعت المجتمعات -والمجامع اللغوية- الغربية إلى رفض استعمال اللفظ الأجنبي سدّا لذريعة “الاختراق اللغوي”، بل اقترحت “بدائل لفظية” (رائج، متداول، متصدر)، لكن عمل مجامع اللغة العربية قائم على استحضار الفرق بين “الموجود” و”المناسب”.

ولا ريب أن الألفاظ الأربعة داخلة في حيز “الموجود”، لكن صفة “المناسب” منتفية عنها لعدم الانصراف الذهني السلس، فصيغ اسم الفاعل “رائج”، “متصدر” واسم المفعول “متداول” مستهلكة للوصفية.

ولفظة “الترند” -فوق شيوعها- شبيهة بقسيمتها في الوقع والجرس كلمة “الفرند” المعربة (التراثية)، فليس فيها ذلك الاستثقال وتلك “الرطانة” التي في كلمة “هاشتاغ” -على سبيل المثال- ومن هنا كان تعريب “الوسم” (المحدث) بديلا حلو الوقع سائغ القبول، على حين اجتمعت في اللفظة الأجنبية “المستوردة” “Hashtag” خشونة الوقع واضطراب الضبط عند كتابتها بالحرف العربي (هاشتاج/هاشتاغ).

ألا وإنه لا ينبغي استسهال إدخال الكلمات الأجنبية -ولا سيما أسماء المخترعات العصرية- ولا تمريرها على عواهنها، ولكنه التسديد والمقاربة، ومراعاة الضرورة والسبب الموضوعي، وما أبرئ المجمع القاهري، فقد تساهل -من قبل- في إجازة ألفاظ ركيكة وأساليب شائهة من سقط لغة الصحافة، لكن “أوراقه سليمة” في “إجازة” كلمة “الترند” من جهتي التخصص الفني والمسوغ الموضوعي.

إعلان

وفي المقطع “الفيديوي” -الذي وصم فيه المجمع القاهري بـ”التكاسل” و”الاستسلام”- أعلن الأستاذ محمد لغظف -في تحكم انطباعي- إغلاق باب “الاقتراض” وإنهاء حالة أخذ العربية من اللغات الأخرى، مكتفيا -بين يدي “إعلان الطوارئ”- بالإشارة إلى أن العالم يعيش “عصر حروب اللغات”، وفي هذا التحكم “عاطفية” جامحة، تنكب صاحبها العلمية، حتى ولو كان ذلك عن حسن نية.

ومن هنا فلعل هاجس “الأمن اللغوي” وراء “فلسفة” الأمالي و”سياستها” في فهم -وعرض- “القضية اللغوية”، وما ثنائية العاطفية والعلمية إلا فرع عن ثنائية القلب والعقل، وفي هذا مدرك تفسير لحالة “التأثر التلقائي” و”التفاعل الفوري” التي أشرت إليها في البداية!

نقد.. لا انتقاد

وبعد، فهذه ملاحظات سجلتها، في سياق القراءة وتحت موجب الاستدراك، أداء لمهمة الإيضاح، لا ترصدا لسانحة الإيقاع، وتحريا لعدل “النقد”، لا توخيا لغرض “الانتقاد”.

وتبقى “الأمالي” -رغم ورود الملاحظة وتطرّق المأخذ- معلمة ثقافية بارزة وصرحا لغويا منيفا تحمد لصاحبها يد خدمة اللغة العربية وآدابها، وتذكر له سابقة حمل رسالة “الضاد” على ثبج “الإعلام الجديد”، وتقريبها للنشء بشائق العرض ورصين المادة، وعسى أن تغني “أمالي محمد لغظف” في الأواخر غناء “أمالي أبي علي القالي” في الأوائل، وتزيد “إمتاعا ومؤانسة”، وأخذا بمجامع الألباب والأذهان!

شاركها.
اترك تعليقاً

2025 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.