ولدت السينما المكسيكية من رحم الثورة التي اندلعت عام 1910، حين تحمس الشباب الثائر لتوثيق أحداثها، وأنتجوا بعض الأفلام، لكن الفترة الذهبية لها كانت في أربعينيات القرن الماضي، ومن ثم عادت للتألق من جديد في القرن الـ21 وتوّجت بجائزة الدب الذهبي من مهرجان برلين السينمائي عام 2008 لفيلم “فريق الصفوة” للمخرج خوسيه باديه.
واتسمت السينما المكسيكية دائما بذلك الحس الثوري الذي ارتبط بنشأتها، لذلك حين يأتي الفيلم من هناك، يرتفع سقف التوقعات بالنسبة لمستوى العمل من حيث الرسالة، ومن حيث المستوى الفني بسبب أسماء كبرى لمخرجين نحتوا أسماءهم بحروف من ذهب في هوليود، ومنهم أليخاندرو إيناريتو غونزاليس وغيليرمو ديل تورو وغيرهما.
ويقدم المخرج لويس إسترادا فيلمه “أهلا بالمكسيك” (Que viva México) الذي يعرض حاليا على منصة “نتفليكس” (Netflix)، والذي يبدو إجمالا كما لو كان صيغة مبالغة بصرية، إذ بالغ في إظهار التناقضات، ودفع بالدراما إلى ذروتها واستعرض ملامح الفقر الشديد الممزوج بمظاهر الاحتفال بالحياة، كما بالغ في إظهار القبح.
يرى الفيلم ذلك القرب الشديد من الولايات المتحدة باعتباره ثقلا هائلا وسببا مؤكدا لأغلب ما يعانيه المكسيكيون من فقر، لكنه لا ينكر أن بعض أبناء الأرض هم من يسلمونها إلى الجارة الشمالية بخياناتهم التي لا تنتهي رغم شعارات الانحياز للفقراء.
نهاية صريحة
بعد 3 ساعات و10 دقائق من بدء عرض الفيلم، يلخص صناع العمل رسالتهم “الاستنكارية” بمشهد أخير، حيث يتم رفع لافتة “شركة الولايات المتحدة الأميركية وكندا” على منجم ذهب في الأرض المكسيكية، ظل الجد الأكبر يحلم به ويتحدث عنه بينما يكذبه الجميع، وبعد أن مات تصارع الأبناء والأحفاد وخان الجميع بعضهم بعضا ببيع أرض المنجم وبيت العائلة، حتى انتهت الأرض في حيازة الشركة الأميركية الكندية.
لم يكن الطريق إلى ضياع الأرض -بما فيها من خيرات- سوى قصة معتادة للشاب بانتشو رييس (الممثل ألفونسو هيريرا)، الذي يعمل في العاصمة لدى أحد ملاك المصانع الذين يشعرون بالخطر تجاه الرئيس الجديد للبلاد بعد أن أعلن انحيازه للفقراء.
يعيش الشاب مع زوجته ماري (الممثلة آنا دي لا ريغيرا) وطفليه متجاهلا وجود عائلته، خاصة والده وجده اللذين يحاولان التواصل معه منذ 20 عاما. وحين يموت الجد، يطمع الشاب في ثروة قد يكون الجد الغامض أورثه إياها، فيذهب إلى قريته، ليجد -بالفعل- كنزا لا يلبث أن يختفي وسط صراعات الأسرة، مما يؤدي إلى بيع الأرض التي قال الجد دائما إن بها ذهبا.
ولم يقدم الفيلم شخصية واحدة من خارج حدود المكسيك، لكن الحضور الأجنبي في البلاد كان واضحا للغاية في شخصية الرأسمالي صاحب المصنع الذي استشعر خطرا من رئيس يرفع شعارات الانحياز للعمال والفقراء، فقرر الإسراع في عملية تصفية العمالة وبيع المصنع ومن ثم الهرب إلى خارج البلاد.
أما الحضور الأكثر تأثيرا، فكان من الجارتين الشماليتين، اللتين وقفتا وراء سلسلة من المشترين لأرض المنجم حتى استولتا عليها.
الهم المكسيكي ليس فريدا من نوعه على شاشات السينما التي تنتجها بلاد العالم الثالث، ودول أميركا اللاتينية بصفة خاصة، التي ما زالت تراود أبناءها أحلام الاشتراكية وتراث إرنستو تشي غيفارا وفيدل كاسترو وسلفادور أليندي، وقد تجسدت تلك الأحلام في نجاح عدد من الساسة ذوي الاتجاهات اليسارية أو المرتبطة بفكرة العدالة الاجتماعية في الوصول لمقاعد الحكم في هذه البلاد.
قيم الفقراء
يبدأ الكاتب والمخرج لويس إسترادا سلسلة طويلة من التبريرات لسلوك بطل العمل في استنكاره أهله والتبرؤ من أصوله ومن عائلته منذ وصول السيارة التي تحمله ومعه أسرته إلى حدود القرية التي هجرها منذ 20 عاما، وبمجرد خروجه عن مسار الطريق المُعبَّد وقع بين أيدي لصوص، كان أحدهم زميلا له على مقاعد الدراسة.
ظهر العم الأوسط للبطل -الذي يعمل قسيسا كاثوليكيا- فاسدا كليا، وهو على استعداد لبيع كل شيء بدءا من الصلوات انتهاء بأراضي البلدة، ويتلقى الرشوة من أجل الصلاة والدعاء لمريض، ويتلقاها من أجل العكس بالنسبة لآخر، أما العم الثاني، وهو مدير مكتب العمدة، فهو مرتش تماما، ويرفع شعار الرئيس الجديد الانحياز للفقراء قدر الإمكان.
لم يكن التشوه العائلي الطاغي ناتجا فقط عن حرمان وفقر، ولكنه امتد لتظهر آثاره في خيانة الأخ لأخيه، وامتهان آخر لأعمال قذرة، وسرقة الجميع للأخ الثري القادم من المدينة، وباقي أفراد العائلة الكبيرة عبارة عن شخصيات تسكن جميعها في دائرة الضياع والخروج عن المألوف.
حاول إسترادا أن يقدم مفارقات كوميديا تلعب على الإعاقات النفسية والجسدية للعائلة، لكنه صنع حالة من الإزعاج المتواصل لمشاهد حائر يبحث عن شخص صالح يمكنه أن يتعاطف معه ويجد فيه ممثلا للخير.
فالشاب الذي عاد من العاصمة طامعا في ميراث من جده بعد أن تبرأ من أهله وقاطعهم، تورط مرة أخرى في سرقة كنز الجد وإخفائه ليكون له وحده، وتسبب في فوضى عارمة وقتل شخصا، وانتهى إلى الجنون، ثم عاد إلى المصنع الذي كان يديره عامل نظافة.
انتقل المخرج بكاميرته من المدينة بمساحاتها الضيقة واللقطات الكبيرة جدا للوجوه، إلى القرية بمشاهدها العامة البعيدة، والتجمعات البشرية باستثناء مشاهد الأسرة ومشاهد الحوارات المفعمة بالكذب والافتعال بين الشاب وزوجته.
في المدينة، كانت مشاهد البطل صريحة بالقدر الذي يجعل المشاهد يدرك أن بطلنا ليس موظفا في المصنع، ولكنه خادم بلا شروط لصاحب المصنع، إذ جاء حجمه في مشاهده مع مديره ضئيلا، وصور بكاميرا أعلى من مستوى رأسه، على عكس المدير المنطلق في حواره، والذي كان وجهه يملأ الشاشة بزاوية كاميرا صورته من أسفل بعين خادمه الجالس أمامه في وضعية التوسل والرجاء.
حاول إسترادا أن يصنع فيلما كوميديا ثوريا، وقدم تفاصيل الثقافة المكسيكية والموسيقى الشعبية التي تميز المجتمع المكسيكي، لكنه لم ينتبه إلى ما يمكن أن يحتمله المتلقي من مبالغات في إظهار مواطن السوء أو مبالغات لصناعة المفارقة.
ذلك أنه ليس من الجمال في شيء ولا من الدراما في شيء التركيز على تفاصيل مثيرة للاشمئزاز، خاصة أنها خارج السياق الدرامي تماما، حتى وإن كان التبرير هو محاولة صناعة معادل بصري لمقولة شعبية.
يؤكد فيلم “أهلا بالمكسيك” أن الإبداع ضرورة حقيقية لصناعة عمل فني جميل، ولكنه يؤكد أيضا أن الذكاء لا يقل أهمية عن الإبداع لمعالجة خطايا المبدع حين يسقط في فخ التنميط بذريعة نقل الواقع، وحين يكون ذلك الواقع عبارة عن تفاصيل مجتمعية اختارها كاتب ومخرج من مساحات مختلفة ليجمعها في فيلم واحد، ففي هذه الحالة التسمية الأدق لها هي وهم الواقع.