5 أيام فقط مرت بعد احتفاله بعيد ميلاده الـ60، ثم جاء المشهد الأخير من حياته، ليبدو كما لو كان تلخيصا مركزا لمشوار عمر الموسيقي السعودي الرائد طلال مداح، الذي توافق ذكرى وفاته يوم 11 أغسطس/آب.

لم يكن طلال مداح مجرد موسيقي ومطرب سعودي محبوب، اشتهر عنه القلب الطيب وعرف بكفاحه الذي ولد معه، وتلك النظرة الحزينة التي كست وجهه حتى في حالات الفرح والسعادة، والتي تشير إلى ذلك الحرمان المبكر من حنان أم رحلت وتركته طفلا.

كان طلال بن عبد الرب الشيخ بن أحمد بن جعفر الجابري قد بدأ عامه الـ61 منذ أيام قليلة بعد أن احتفل بعيد ميلاده في الخامس من أغسطس/آب 2000، ثم انطلق إلى مدينة أبها البهية، ليستمتع بأجوائها الساحرة مع جمهوره، ولكن المشهد الأخير كان على مسرح المفتاحة، إذ صمت الصوت الذي ظل ينشر الحيوية والحب والحلم لما يتجاوز 45 عاما.

طلال مداح هو أول الأنغام في الجزيرة العربية، وهو “زرياب الجديد” وهو “صوت الأرض”، أنتج فيلما سينمائيا قبل بدء السينما في الجزيرة، أقام الحفلات الغنائية باعتبارها مناسبات خاصة، لم تقم على هامش مناسبة اجتماعية لأول مرة، وأصدر الأسطوانات وسجل في جمعية المؤلفين والملحنين في فرنسا “ساسيرو”، وهو الصوت السعودي الذي صدح من إذاعة لندن ومن برلين وموسكو.

طلال مداح هو ذلك الرجل الذي حمل راية الموسيقى، وخاض معركة البداية، ليست بدايته فقط، ولكنه بداية فن الغناء والموسيقى، بينما لم تكن هذه الفنون على سلم أولويات المجتمع.

ولد طلال في أطهر بقاع الأرض، مكة المكرمة، ورحلت والدته، فتولت شقيقتها تنشئته، واعتبره زوج خالته مثل ابنه، فاهتم به كثيرا، ومنحه لقبه، فصار طلال مداح. وعرف الطفل طلال الغناء من خلال الموسيقار الراحل محمد عبد الوهاب.

مطرب المدرسة

التحق طلال مداح بمدرسة في مدينة الطائف، وسرعان ما عُرفت عنه حلاوة الصوت وعذوبته، ولأنه كان فريدا في شغفه، أسندت إليه مهمة الغناء في المناسبات والحفلات المدرسية، ولم يعد يهتم المطرب الصغير بدراسته، واكتفى بالقليل منها.

لم يكن الغناء مقبولا بنسبة كبيرة في المجتمع مع بدايات طلال، لذلك جاءت المواجهة مع تشكل شخصيته، إذ كان يخفي “العود” في سياق محاولة تعلم العزف عليه حتى أتقنه.

لم يكن تعلم العزف على العود خلسة إلا بداية لسلسلة من المواجهات انتهت إلى انتشار ثقافة القبول بالغناء في الجزيرة العربية، ورغم ذلك ظل صاحبه عفويا وبسيطا، لا يرى من قيمته إلا رغبته في مواصلة المشوار بحثا عن أغنية ممتعة أو لحن جميل.

الفنان السعودي الراحل طلال مداح

وردك يا زارع الورد فتح ومال ع العود

كلك ربيـع الورد منك الجمال موعود

وردك يا زارع الورد

وردك جميل محلاه فتح على غصنه

لما الندى حياه نور وبان حسنه

ومال يمين وشمال .. وردك يا زارع الورد

جميل وماله مثال .. وردك يا زارع الورد

وردك يا زارع الورد

 

جاءت أولى أغاني المطرب الجديد طلال مداح لتكون إشارة انطلاق لحالة فنية ستترك أثرا لا يزول حتى بعد رحيلة بأكثر من عقدين، وهي أغنية وردك يا زارع الورد، وهي الأولى بين ما يزيد على 572 أغنية قدمها طلال.

الكاتب والروائي السعودي عبده خال، الذي كان صديقا مقربا من المطرب والموسيقار الراحل، أكد وجود مقطوعات موسيقية خالصة لدى صديقه الراحل، وعبر صفحته على موقع “إكس” (تويتر سابقا) قال إن طلال مداح شكّل -عبر أغنياته- وجدان جيل كامل من السعوديين، وكتب “عرفته طفلا صغيرا عندما تم إدخال التلفزيون إلى بيتنا، وأول أغنية سمعتها وشاهدتها كانت (عيني علينا علينا)، فعلقت بالبال، ثم علقت أغنية أخرى عندما كنت صبيا هي (بعد إيه ترسل كتاب)، وفي مرحلة المراهقة توالت الأغاني التي تجذرت في حرث القلب”.

الفنان السعودي الراحل طلال مداح

شخصية الأغنية السعودية

كان الغناء العربي حتى منتصف القرن العشرين مصريا بامتياز، لكن طلال مداح استطاع أن يشكل أول ملامح الأغنية السعودية، كما يؤكد الكاتب السعودي جمعة الجميعة في مقال له على موقع “ثمانية”، إذ يقول الجميعة إن الأغنية السعودية كانت في الأربعينيات والخمسينيات أغنية تراثية بسيطة، يعتمد مطربوها لتلحينها على أسلوب اللحن الواحد، بخلاف الأغنية المصرية المقسمة إلى مقاطع، والتي أسسها سيد درويش في مصر، وغزت العالم العربي بأصوات أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ.

تأثر العالم العربي من الخليج إلى المحيط بالأغنية المصرية. وحاول كثير من المطربين العرب مجاراة هذا القالب الغنائي المميز في العراق ولبنان والمغرب، مع التغيير في الألحان والكلمات لتتناسب مع هوية البلد الثقافية والاجتماعية.

وكان للأغنية السعودية نصيبها من هذا التأثر أيضا. وكان طلال مداح من أوائل الفنانين الذين قدموا الأغنية السعودية بصورتها الحديثة في نهاية خمسينيات القرن العشرين، وتغير شكل قالب الأغنية السعودية بعد أغنيته الأولى “وردك يا زارع الورد” عام 1959، التي تتكون من مقاطع مختلفة الوزن والقافية، والتي كتب كلماتها عبد الكريم خزام.

مقادير

شدا طلال مداح بأنجح أغنياته وأجملها عام 1965 في نادي الترسانة الرياضي بمصر، وسط ما يقرب من 40 ألف مستمع، وما إن انتهى الحفل بالقاهرة حتى طارت الأغنية إلى كل مكان في الوطن العربي، إذ غناها بعد طلال كل من صديقه محمد عبده والمطربة الجزائرية وردة، وغيرهما كثير.

وتعد الأغنية -التي كتبها الأمير الشاعر محمد العبد الله الفيصل ولحنها سراج عمر- هي الأكثر شبها بطلال مداح، الذي عاش حزينا رغم الحب الذي أحاطه، وكان مصحوبا باحترام خاص يليق بمطرب وملحن رائد مهد الطريق أمام أجيال المطربين الخليجيين.

وبلغ عدد ألحان طلال مداح ما يقرب من 346 لحنا، قدمت لمطربين من كل أنحاء الدول العربية، ومنهم وردة الجزائرية، وفايزة أحمد، وهيام يونس، وسميرة سعيد، ورجاء بلمليح، وعبادي الجوهر.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.