في سبتمبر/أيلول 2025، يشهد عالم الفكر السياسي والنقاش حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني حدثًا هامًا بإصدار كتاب “إسرائيل على حافة الانهيار: ثماني ثورات قد تؤدي لتصفية الاستعمار والتعايش” للمؤرخ والبروفيسور الإسرائيلي إيلان بابيه. يُعد بابيه من أبرز المؤرخين الجدد الإسرائيليين، الذين أسهموا في إعادة قراءة التاريخ الإسرائيلي بعيدًا عن الروايات التقليدية، وتقديم منظور نقدي لتأسيس الدولة ونكبة فلسطين. هذا الكتاب، الذي يثير جدلاً واسعًا، يطرح سيناريوهات جريئة حول مستقبل إسرائيل، ويستكشف إمكانية التغيير الجذري في المنطقة.
المؤرخون الجدد وتحدي الرواية الإسرائيلية الرسمية
لم يكن بابيه وحده في هذا المسعى. فقد انضم إليه مجموعة من المؤرخين الإسرائيليين، المعروفين بـ “المؤرخين الجدد”، مثل توم سيغيف وسيمحا فلابان وآدم راز وبيني موريس. هؤلاء المؤرخون تحدوا الأساطير التي بُنيت عليها الرواية الإسرائيلية الرسمية حول حرب 1948، وكشفوا عن تفاصيل لم تكن متاحة من قبل، تتعلق بالتهجير القسري للفلسطينيين وتدمير القرى. آفي شلايم، مؤرخ يهودي عراقي الأصل، يصف بابيه بأنه أحد أكثر الباحثين دراية بتفاصيل الصراع وتاريخه المعقد.
الكتاب: رؤية لمستقبل ما بعد إسرائيل
صدر الكتاب في طبعتين متزامنتين باللغة الإنجليزية عن داري “بيكون بريس” في أمريكا و “ون وورلد بابليكيشنز” في بريطانيا، ويضم 216 صفحة. يستند الكتاب إلى تحليل عميق للانقسامات الداخلية التي تعاني منها إسرائيل، والتي تفاقمت بعد أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وما تلاها من عدوان على غزة. يرى بابيه أن إسرائيل انكشفت كدولة عاجزة عن حماية مواطنيها، وممزقة بين تيارات دينية وسياسية متصارعة، وتفقد دعمًا متزايدًا على الصعيدين الإقليمي والدولي.
ثماني ثورات نحو التغيير
يقترح بابيه أن انهيار إسرائيل ليس أمرًا حتميًا، ولكنه احتمال وارد، خاصة مع استمرار السياسات الحالية. ويرى أن تجنب هذا الانهيار يتطلب سلسلة من “الثورات الصغيرة” أو “النقلات النوعية التاريخية”، والتي تشمل:
- إعادة تأهيل حق العودة للاجئين الفلسطينيين كعنصر أساسي في أي حل مستقبلي.
- إعادة تعريف الهوية الجماعية اليهودية في فلسطين التاريخية.
- وضع خطة واضحة لمستقبل المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية بعد عام 1967.
- صياغة استراتيجية جديدة لحركة وطنية فلسطينية موحدة تتبنى خيار الدولة الديمقراطية الواحدة.
سيناريوهات السقوط المحتمل
يستكشف بابيه سيناريوهات مختلفة لسقوط إسرائيل، مستشهدًا بأمثلة تاريخية مثل فيتنام الجنوبية وجنوب أفريقيا. ويشير إلى أن إسرائيل قد تشهد نهاية مماثلة لأي من هذين السيناريوهين: إما محو الدولة بالكامل، أو سقوط النظام الأيديولوجي القائم (الصهيونية) واستبداله بنظام آخر. ويصف الحكومة الإسرائيلية الحالية بأنها “صهيونية جديدة” أكثر تطرفًا وعنصرية من سابقاتها، وتسعى إلى تحقيق أهداف توسعية تتجاوز حدود فلسطين التاريخية.
“دولة يهوذا” و”دولة إسرائيل”: انقسام مُحتمل
يطرح بابيه فكرة الانقسام الداخلي لإسرائيل إلى كيانين منفصلين: “دولة يهوذا” الدينية المتطرفة، والتي تسيطر عليها المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، و “دولة إسرائيل” العلمانية، والتي قد تسعى إلى البقاء كدولة أصغر وأكثر تركيزًا على حماية حقوق مواطنيها. ويعتبر هذا الانقسام نتيجة حتمية للتناقضات العميقة داخل المجتمع الإسرائيلي.
الإنهاك العسكري والاقتصادي: عوامل مُسَرِّعة
بالإضافة إلى الانقسامات الداخلية، يشير بابيه إلى عوامل أخرى قد تسرع من عملية الانهيار، بما في ذلك الإنهاك العسكري والاقتصادي. ويؤكد أن الجيش الإسرائيلي لم يُصمم لخوض حروب استنزاف طويلة الأمد، وأن السياسات التوسعية للحكومة الإسرائيلية تفرض أعباء اقتصادية باهظة على الدولة. كما يلاحظ أن هناك تزايدًا في عدد الإسرائيليين الذين يغادرون البلاد بسبب عدم الرضا عن الأوضاع السياسية والاقتصادية.
مستقبل ما بعد الانهيار: أمل بالتصالح
على الرغم من السيناريوهات القاتمة التي يطرحها، يظل بابيه متفائلًا بإمكانية تحقيق مستقبل أفضل للفلسطينيين والإسرائيليين. ويرى أن انهيار إسرائيل قد يفتح الباب أمام عملية تصفية الاستعمار حقيقية، وبناء دولة ديمقراطية واحدة للفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء، دولة تحترم حقوق جميع مواطنيها وتضمن لهم العدالة والمساواة. ويؤكد أن هذا المستقبل يتطلب رؤية واسعة الأفق، والتزامًا بـ “العدالة التصالحية”، وإعادة بناء الثقة بين الطرفين.
في الختام، يمثل كتاب “إسرائيل على حافة الانهيار” دعوة للتفكير النقدي في مستقبل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، واستكشاف إمكانية التغيير الجذري. يثير الكتاب أسئلة صعبة حول هوية إسرائيل ومستقبلها، ويقدم رؤية جريئة لمستقبل ما بعد الانهيار، مستقبل يقوم على أساس العدالة والمساواة والتعايش السلمي. هذا الكتاب يستحق القراءة والتأمل من قبل جميع المهتمين بقضايا الشرق الأوسط، والباحثين عن حلول عادلة ومستدامة للصراع الفلسطيني الإسرائيلي.














