أمجد ناصر، الشاعر والأديب الأردني، يتربع على عرش الإبداع بدواوين شعرية تركت بصمة لا تمحى في المشهد الأدبي العربي. لكن ما قد يغفل عنه الكثيرون هو عمق تجربته في كتابة النثر، والتي لم تكن مجرد محطة عابرة، بل تطوراً طبيعياً لشخصيته الإبداعية المتشعبة. لم تطغَ هذه الكتابات النثرية على مكانته الشعرية، بل أثْرَتْ مسيرته وحفرت له اسماً لامعاً في هذا المجال أيضاً.
الشعر أولاً: الجذر الذي تغذى منه النثر
لطالما كان الشعر هو الهوية الأساسية لأمجد ناصر، نقطة الانطلاق التي شكلت رؤيته للعالم وأسلوبه في التعبير. أعماله الشعرية المبكرة، منذ نهاية السبعينيات، رسخت له مكانة مرموقة بين شعراء جيله، خاصةً في سياق تطور قصيدة النثر العربية. ومع ذلك، لم يكن هذا يعني إهمالاً أو استبعاداً لإمكانات الكتابة النثرية.
بدأ الاهتمام بالنثر يتوسع لدى ناصر في المرحلة الثانية من تجربته، حوالي منتصف التسعينيات. لم يكن هذا التحول مفاجئاً، بل نتيجة طبيعية لتراكم الخبرة والتجربة، واستثماراً للمرجعية الشعرية التي صقلها ناصر بعناية فائقة. الشعر لم يكن مجرد مرحلة سابقة، بل ظل مورداً حيوياً يغذي كتاباته النثرية، على مستوى الأدوات والتشكيل اللغوي، وكذلك على مستوى المنظور الجمالي.
تنوع الكتابات النثرية: رحلات، سيرة، وتأملات
لقد ثمرت هذه المرحلة النثرية عن مجموعة متنوعة من الأعمال التي تعكس اهتمامات ناصر المتعددة. من بين أبرز هذه الأعمال:
- خبط الأجنحة: سيرة المدن والمقاهي والرحيل (1996): عمل يجمع بين السيرة الذاتية وتأملات في المدن والمقاهي التي ارتيادها، ينقلنا إلى عالم من الذكريات والانطباعات.
- تحت أكثر من سماء: رحلات إلى اليمن، لبنان، عُمان، سورية، المغرب، وكندا (2002): رحلة واسعة النطاق تستكشف ثقافات وأماكن مختلفة، وتعكس نظرة ناصر المتفحصة إلى العالم.
- طريق الشعر والسفر (2008): مجموعة شهادات تكشف عن علاقته بالشعر والسفر، وتكشف عن تفاصيل تجربته الإبداعية.
- الخروج من ليوا، يليه في ديار الشحوح (2010): رحلة استكشافية في قلب الصحراء العربية، تغوص في أعماق التراث والثقافة البدوية.
- رحلة في بلاد ماركيز (2012): عمل يتناول أدب غابرييل غارسيا ماركيز وتأثيره، ويجمع بين التحليل الأدبي والتأملات الشخصية.
- بيروت صغيرة بحجم راحة اليد: يوميات من حصار عام 1982 (2012): يوميات مؤثرة تسجل تجربة حصار بيروت من منظور شخصي وإنساني.
- خذ هذا الخاتم (2014): عمل يمزج بين السيرة الذاتية والرحلة، ويركز على البحث عن الهوية والانتماء.
بالإضافة إلى هذه المؤلفات، نشر ناصر العديد من المقالات والدراسات في مختلف المجلات والصحف العربية، مما يؤكد التزامه بالكتابة النثرية كجزء أساسي من مشروعه الإبداعي. هذا الإنتاج الغزير يعكس تحولًا حقيقيًا في مسيرته، ورغبة في استكشاف ألوان وأنواع جديدة من النثر الأدبي.
كتابة الذات: مرآة تعكس التجربة الإنسانية
تتسم كتابات أمجد ناصر النثرية بطابع ذاتي قوي، حيث ينطلق من تجربته الشخصية لفحص العالم من حوله. هذا يجعله جزءاً من حركة “كتابة الذات” الحديثة، التي تحتفي بالصوت الفردي وتؤكد على أهمية التجربة الشخصية في فهم الواقع.
يعتبر ناصر نفسه “مهاجراً يعود إلى ذاكرته”، وهو ما يفسر عودته المتكررة إلى الأماكن التي عاش فيها في مراحل مختلفة من حياته، وانعكاس ذلك بوضوح في أعماله النثرية. يتأمل ناصر في هذه الأماكن، ويستعيد الذكريات، ويبني لها صورة جديدة في ضوء تجربته الراهنة، مما يمنح كتاباته عمقاً خاصاً ورونقاً متميزاً.
وفي كتابه “خذ هذا الخاتم” نجد مثالاً واضحاً على هذا المنحى الذاتي، حيث يعود الكاتب إلى بيت طفولته في الصحراء، ويتأمل في الماضي والحاضر، ويستكشف العلاقة بين الهوية والانتماء. هذه الرجعة ليست مجرد استعادة للذكريات، بل هي رحلة بحث عن الذات، ومحاولة لفهم العالم من خلال عدسة التجربة الشخصية.
شعرية النثر: سمة مميزة للتجربة
لا يمكن الحديث عن نثر أمجد ناصر دون الإشارة إلى شعرية هذا النثر، والتي تمثل سمة مميزة لتجربته الإبداعية. فالكاتب لا يكتب نثراً عادياً، بل نثراً مشبعاً بالصور والمجازات واللغة الشعرية.
هذه الشعرية ليست مجرد زينة لغوية، بل هي جزء لا يتجزأ من رؤيته للعالم وطريقته في التعبير عنه. ناصر، كونه شاعراً في الأصل، يستثمر خبرته الشعرية في كتاباته النثرية، ويمنحها عمقاً وإيحاءً وقدرة على التأثير في القارئ.
في النهاية، يمكن القول أن تجربة أمجد ناصر في النثر ليست مجرد إضافة إلى مسيرته الشعرية، بل هي تطور طبيعي ومشروع. ناصر أثبت أنه قادر على التعبير عن أفكاره ومشاعره ببراعة في كلا المجالين، وأن تجربته الإبداعية ككل، شعرًا ونثرًا، تمثل قيمة فنية وثقافية كبيرة تستحق الدراسة والتقدير. إنها دعوة للتأمل في الحياة، والبحث عن الهوية، واكتشاف جماليات العالم من حولنا.















