القاهرة- بمجرد أن تطأ قدماك متحف أحمد شوقي الواقع على النيل بالقاهرة تشعر كأن أمير الشعراء ينتظرك بنفسه في الداخل وما هي إلا خطوات ودقائق وتسلم عليه، فكل شيء في القصر كما هو لم يتغير منذ أن تركه صاحبه ورحل عام 1932، الأرضيات الخشبية (الباركية) كما هي، والحوائط مجلدة بورق الحائط الذي اختاره لها أمير الشعراء لم تتغير ولم يتبدل لونها، والتماثيل واللوحات والتحف الفنية تقابلك وتعانق عينيك في كل مكان، والأثاث كما هو بالكامل.

هنا كان يجلس أمير الشعراء، وهنا كان يقرأ، وهناك غرفة نومه ومكتبته، وفي هذا الركن من مكتبه يملأ عينيه بمنظر النيل، وعلى هذا المقعد الخاص في حجرة نومه يتأمل الفضاء الذي تملأه الأهرامات في الخلفية.

تحفة معمارية

رحل أمير الشعراء، وتنازلت الأسرة عن القصر في أول سبعينيات القرن الماضي ليتحول إلى متحف أحمد شوقي بقرار جمهوري وقعه الرئيس السادات، وافتتح في 17 يونيو/حزيران 1977، وبين وقت وآخر تفاجئ الأحداث الثقافية بخبيئة جديدة لأمير الشعراء، مثل أشيائه الخاصة التي ستنضم قريبا إلى المتحف بعد الإعلان عنها من أسرة الدكتور عبد السلام الزيات زوج أمينة ابنة الدكتور طه حسين، والتي جمعتها علاقة نسب بأسرة أمير الشعراء.

القصر -الذي بناه شوقي سنة 1920 فور عودته بعد 5 سنوات من النفي في إسبانيا- ما زال شاهدا على أحداث مصر لأكثر من قرن من الزمان، وبين جدرانه وحجراته استقبل أمير الشعر العربي أهم الشخصيات السياسية والأدبية في مصر والعالم، هنا أقام الموسيقار محمد عبد الوهاب سنوات طويلة، وهناك جلس الزعيم سعد زغلول، وفي الحجرة الشرقية وقف الشاعر الهندي الكبير رابندرانات طاغور ليلقي كلمة شكر أثناء تكريمه.

وإذا ما توفرت الإمارة والزعامة الأدبية لشاعر العروبة الكبير أحمد شوقي فقد اجتمعت لكرمة ابن هانئ عدد من العبقريات المتفردة، منها عبقرية العمارة والاسم والمكان، فالبيت تحفة فنية أطلق عليه اسم الشاعر العباسي الحسن بن هانئ (أبو نواس) باعتباره أهم شاعر تأثر به أمير الشعراء ورأى أنه لم يأخذ حقه من التقييم.

ويقع القصر بالقرب من كوبري عباس في جزيرة الزمالك، ويطل مكتبه على النيل مباشرة، أما حجرة نومه فكانت تطل على الأهرامات، وكانت لشوقي عادة ثابتة وهو ما زال في بيته القديم بالمطرية قبل نفيه إلى إسبانيا وهي أن يذهب كل يوم جمعة في رحلة أسرية إلى منطقة الأهرامات، كما تقول أمينة المتحف لميس وليد التي صحبتنا للتعريف بمقتنياته.

كانت حديقة القصر أكثر اتساعا مما هي عليه الآن، وكانت تطل على النيل مباشرة، قبل أن يقتطع منها شارع النيل الذي يمتد من إمبابة إلى الجيزة، وكانت تمر بجوار الكرمة ترعة صغيرة لتكتمل للقصر أبهة الجمال من الماء والخضرة والوجه الحسن.

وقبل أن تدلف بقدميك إلى كرمة ابن هانئ يستقبلك أمير الشعراء بنفسه ممثلا في تمثال كبير صممه المصري جمال السجيني، بمناسبة الاحتفال بالذكرى الخمسين لوفاة أحمد شوقي، ويجذبك جمال تنسيق الحديقة لتصعد سلالم الفيلا المكونة من طابقين تحتهما قبو واسع كان مخصصا للطهاة وخدم القصر.

عش البلبل

تترك الباب الرئيسي لصالة كبيرة على اليمين منها غرفة الطعام التي استضافت العديد من الشخصيات الأدبية والفنية والسياسية المصرية والعربية والأجنبية، وقد تحولت الآن إلى مكتبة حديثة تحوي مجموعة كبيرة من كتب الشعر الجاهلي والحديث وصورا لبعض ما نشر عن شوقي في حياته.

وتنظر يسارا لتفتح أمامك غرفة التدخين ثم ممر صغير يوصل إلى جناح الضيوف الذي سماه شوقي “عش البلبل” وحوّله إلى جناح خاص أقام فيه الموسيقار محمد عبد الوهاب عام 1924 حتى وفاة شوقي عام 1932.

وشهد هذا الجناح ميلاد أهم ألحان عبد الوهاب في مصر خلال تلك الفترة، حيث كان يلحن ما كان يكتبه أمير الشعراء من قصائد، وعلى بعد خطوات تقف المكتبة السمعية التي تحوي تسجيلات الأغاني التى أبدعها شوقي لعبد الوهاب.

المدخل والصالة بالدور الأرضي بقصر ومتحف أحمد شوقي وعلى الجانبين غف الطعام والتدخخين وعش البلبل

وتبدو إبداعات أمير الشعراء في العمارة الفنية في صالون الاستقبال الذي يتميز بتصاميم عربية إسلامية، وترفع رأسك لترى السقف منقوشا بالزخارف العربية، أما الجدران فترصعها آيات قرآنية بالخط الكوفي.

هذه القاعة شهدت أزهى عصور الفن من خلال الاحتفالات بالمناسبات المختلفة لتكريم زوار الكرمة من الأدباء والفنانين ورجال السياسة، وكذلك احتفالات شم النسيم السنوية.

ومن أشهر الحفلات التي أقيمت في هذه القاعة حفل زواج علي بن أحمد شوقي من بنت خالته، ووضع شوقي أغنية بهذه المناسبة غناها عبد الوهاب، وحضر الحفل الزعيم سعد زغلول، وما زالت صورتهما التي التقطت لهما معا تزين جدران المتحف.

هكذا يبدو مدخل صالة الدور الأرضي بقصر أمير الشعراء أحمد شوقي بدون تغيير لأكثر من قرن من الزمان - القاهرة

وحظيت الكرمة في نفس هذا العام بزيارة الفيلسوف والشاعر الهندي رابندرانات طاغور الذي أقام له شوقي حفل تكريم دعا إليه الأدباء والكبراء والزعماء، وغنى محمد عبد الوهاب لأول مرة أغنية من مسرحية مصرع كليوباترا “أنا أنطونيو وأنطونيو أنا”.

ونصعد إلى الطابق الثاني من خلال سلّم بني اللون في نهاية القاعة الشرقية، وبجوار السلّم قاعدة رخامية عليها تمثال نصفي لشوقي صنعه الفنان اللبناني يوسف الحويك، ومدون على قاعدة التمثال ذكرى تنصيب شوقي أميرا للشعراء عام 1927.

الطابق الثاني مخصص لغرف نوم الأسرة، وهنا تُفاجَأ بغرفة نوم شوقي وكأنه لم يغادرها إلا أمس، حيث بقيت على نفس هيئتها يوم رحيله، الجدران ما زالت مجلدة بورق حائط جميل وزاهي اللون لم يغيره تعاقب الأيام والسنين لما يقارب قرنا من الزمان، وهي محتفظة برونقها وجمالها، وفي الغرفة سرير شوقي النحاسي بإطاره العلوي وأعمدة نحاسية مزخرفة ومطعمة بماء الذهب، وإلى جانب السرير مقعده المفضل وعدد من الأرفف كان يحتفظ عليها بالكتب التي يختارها للقراءة.

وكانت لزوجته السيدة أمينة شاهين غرفة نوم خاصة حتى لا يزعجها أثناء سهره للقراءة أو كتابة الشعر، وعلى سرير غرفة الزوجة نقش على مقدمته بالنحاس عبارة “نوم العوافي”، وفي الحجرة كراسٍ وطاولة على شكل رقعة الشطرنج، وللغرفتين حمام خاص لا يستعمله سواهما.

غرفة نوم السيدة خديجة شاهين زوجة أمير الشعراء أحمد شوقي ، والحجرة كما كانت منذ قرن من الزمان - القاهرة

أما غرفة المكتب فتطل على النيل، وهي من طراز فرنسي قديم، فقد كان شوقي معروفا بولعه بطرز الأثاث والتحف النادرة ويسعى إلى اقتنائها مهما غلا ثمنها، وفي المكتب صورة بروفايل لأحمد شوقي، وصورته مع زعيم الأمة سعد زغلول، وفي الخلفية شخص يرتدي طاقية وجلبابا ونظارة يقول خبراء إنها لسكرتيره الخاص النجريدي.

قصر أمير الشعراء ( متحف أحمد شوقي ) حيث يطل على النيل مباشرة

أما صالون استقبال الضيوف فهو أيضا تحفة فنية اختاره شوقي على الطراز الفرنسي أيضا، جاء به من بيته القديم في المطرية، وعلى رؤوس كراسي الصالون مناظر من قصة روميو وجولييت على شكل حلي مذهبة، وعلى جدران الصالون عدد من اللوحات، منها لوحة علي شوقي والد أمير الشعراء وصورة لشوقي في سنوات الصبا.

وغرفة النوم الأخيرة هي لأصغر أبنائه “علي”، وهي خالية من الأثاث، وفيها وضعت بعض النياشين والأوسمة والأنواط والهدايا التي حصل عليها أمير الشعراء، وفي منتصف الغرفة توجد واجهة زجاجية فيها بدلة التشريفة، وهي من اللون الأسود صدرها مرصع بخيوط ذهبية رقيقة يقال إنه لم يلبسها سوى مرتين أو 3 مرات، واستأذن الخديوي في ألا يرتديها لأنها تسبب له مشاكل صحية.

وفي الحجرة أيضا صورة بألوان الفحم لأحمد شوقي وهو يدرس في فرنسا، وفي خزانة زجاجية مستطيلة توجد “وثيقة البيان” التي أهداها له المنتدى العربي الإسلامي في مومباي بالهند.

حديقة ومدخل متحف أحمد شوقي ويظهر تمثال أحمد شوقي في وسط الحديقة - القاهرة

وفي الحجرة المجاورة لحجرة الأوسمة غرفة صغيرة تضم 713 مخطوطة بيد أمير الشعراء، ومنها ما هو مكتوب على علب السجائر، حيث كان شوقي يدون خواطره على أي شيء تقع عليه يده، بل على أساور قميصه أحيانا إن لم يجد ما يكتب عليه، وعلى الحائط مجموعة من الصور الفوتوغرافية خاصة بالشاعر وأسرته وأقاربه وبعض أصدقائه من الشخصيات السياسية والفنية المعروفة، بالإضافة إلى بعض الصور الزيتية والتحف التي كان أحمد شوقي مغرما بجمعها من المزادات.

وفي صالة الاستقبال أشهر مقتنيات المكتبة الخاصة بأمير الشعراء، وتضم أكثر من 300 كتاب، تحتوي بعض صفحاتها على مسودات بخط الشاعر وصورة نادرة لنابليون في شبابه وأخرى لزوجته خديجة شاهين وابنته أمينة وحفيدته خديجة.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.