ساهمت السينما في الترويج لكثير من المدن، فعشق متفرجون باريس ورومانسيتها رغم أنهم لم يزوروها من قبل، وافتتن البعض بحيوية نيويورك وعصريتها من دون أن يطؤوا قارة أميركا الشمالية بأقدامهم، بل انتقلوا عبر الشاشة الفضية العملاقة بين القارات ووقعوا في حب تلك المدن السينمائية.

وهنا نتحدث عن مدن أخرى، وقصص شديدة المحلية والواقعية في آن واحد، ومخرجين نقلوا مدنهم على الشاشة الكبيرة كما عاشوا فيها، بعيوبها ومزاياها، بقسوتها ورقتها، ونتعرف على مكسيكو سيتي وبلفاست وأوسلو والدار البيضاء كما لم نرها من قبل.

روما

ظهر اسم العاصمة الإيطالية الشهيرة في العديد من الأفلام السينمائية، غير أن روما المخرج ألفونسو كوارون مختلفة. فهي منطقة روما التي تقع في مدينة مكسيكو سيتي، الحي البرجوازي شهد طفولة المخرج المكسيكي الحائز على الجوائز، ويؤرخ له في هذا الفيلم الذي عُرض عام 2018، وفاز بجائزة الأسد الذهبي وأوسكار أفضل مخرج وأفضل تصوير وأفضل فيلم دولي.

وينقل الفيلم حياة حي روما في مكسيكو سيتي في سبعينيات القرن العشرين، وفيه نتعرف على كليو (ياليتزا أباريسيو) الخادمة التي تحمل في عروقها دماء السكان الأصليين، وتعمل وتقيم في منزل عائلة برجوازية، وتُربي أطفالهم وتعتني بكل تفاصيل الحياة، وتعين الأم على رعاية هذه العائلة الكبيرة.

قد تبدو كليو الشخصية الرئيسية، غير أن تلك خدعة المخرج، الذي وضعها في الصدارة لتبرز هدفه الحقيقي وهو حي روما بهذه المدينة التي تشتعل ثورةً لأسباب سياسية وعرقية وطبقية. ويبرز ذلك في أحد المشاهد التي تصطحب فيه ربةُ المنزل خادمتها للتسوق، وبشكل مفاجئ يتحول احتجاج طلابي أمام المتجر إلى مجزرة كوربوس كريستي في 10 يونيو/حزيران 1971، حين هاجمت مجموعة شبه عسكرية تُعرف باسم “لوس هالكونيس” (الصقور) المتظاهرين، وطارد المسلحون أحد الطلاب إلى داخل المتجر وقتلوه.

وتعتبر هذه المجزرة حدثا حقيقيا يؤرخ له كوارون في فيلمه بشكل حي للغاية على الرغم من طبيعة الفيلم الروائية، فيبدو في هذه اللقطات كأنه “دوكيودراما” تُعيد إحياء الماضي.

“أسوأ شخص في العالم”

نسافر مع “أسوأ شخص في العالم” (The Worst Person in the World) إلى مدينة أوسلو النرويجية، وذلك في الفيلم من إخراج يواكيم ترير، والذي عُرض خلال مهرجان كان السينمائي، وحصلت بطلته ريناتي رينسف على جائزة أفضل ممثلة، كما ترشّح لجائزة أوسكار أفضل فيلم دولي.

وفيه تبحث البطلة جولي المتقلبة المزاج (ريناتي رينسف) عن ذاتها في عالم مليء بالخيارات المختلفة إلى حد الإرباك، فتنتقل باستمرار بين هواية وأخرى، ومهنة وأخرى، ويختل توازنها عندما تقابل شابًا يجعلها تعيد حساباتها، فتترك خلفها علاقة عاطفية مستقرة.

وينقل الفيلم تأثير دوامة الخيارات المفتوحة أمام شباب اليوم، وكيف تصبح نوعًا من الضغط في حد ذاتها، وذلك على خلفية من مدينة أوسلو التي يتجاوز دورها مجرد المكان الذي تعيش فيه البطلة، فهي ذات حضور بصري ووجداني يعكس ملامح جولي وتقلباتها العاطفية والفكرية.

وتعد أوسلو “أسوأ شخص في العالم” مدينة نابضة بالحياة رغم هدوئها الشديد، وتشكل إطارًا واقعيًا لصراعات البطلة الداخلية حول الهوية والحب واختيار مسارها في الحياة. وتبدو هنا صامتة تشارك في تشكيل الحبكة ما بين شوارعها ومقاهيها والجمال الطبيعي، وتعكس في الوقت ذاته شعور التردد والبحث عن الذات، حيث تجسد التناقض بين الاستقرار والحرية والتوتر الذي يحكم رحلة جولي طوال الفيلم.

بلفاست

وصف المخرج كينيث براناه فيلمه “بلفاست” (Belfast) بأنه أكثر أفلامه شخصية وصدقًا، فهو شبه سيرة ذاتية تتناول حياته طفلًا في مدينة بلفاست (شمال أيرلندا) إبان فترة اضطراباتها عام 1969. وقد عُرض الفيلم لأول مرة خلال مهرجان تيلورايد السينمائي، ثم فاز بجائزة الجمهور من مهرجان تورنتو، وترشح لـ7 جوائز أوسكار فاز منها بجائزة أفضل سيناريو.

ويتتبع هذا العمل الفني حياة عائلة بروتستانتية من الطبقة العاملة من وجهة نظر ابنهم ذي الـ9 سنوات خلال اضطرابات بلفاست. فبينما يعيش ويعمل الأب في إنجلترا، تحيا بقية العائلة في بلفاست في حي يبدو مثاليًا، غير أن تحت هذا المظهر الهادئ نارًا مشتعلةً من الفتنة الطائفية.

فخلال أحداث شغب أغسطس/آب 1969 شنّت مجموعة من البروتستانت هجمات على منازل ومتاجر الكاثوليك، فأقام السكان حاجزًا يحول دون تصاعد العنف. ومن منظوره الضيق يشعر الطفل بالحيرة تجاه هذه التغيّرات العنيفة التي تعتري الحياة من حوله، وتَجعل صداقته بزميلته الكاثوليكية في عداد المستحيل.

وبينما يبدأ الفيلم بإظهار حالة الاطمئنان التي تعيشها العائلات في الحي ولعب الأطفال أمام المنازل بأمان، ينتهي بأصوات العنف والاضطرابات التي تزداد اشتعالًا، ويتحول الشارع إلى ساحة قتال فيضطر الطفل وعائلته لمغادرة أيرلندا بالكامل بحثًا عن حياة أكثر أمانًا، ويبتعدون قسريًا عن رحم عائلتهم الممتدة والأجداد الذين تركوهم في بلفاست كجزء من ماضٍ كُتب عليه الموت قبل الأوان.

علِّي صوتك

يمزج فيلم “علِّي صوتك” (Casablanca Beats) بين الطابع الوثائقي والروائي، إذ تدور أحداثه داخل مركز ثقافي أسسه المخرج نبيل عيوش بالفعل في حي سيدي مؤمن بالدار البيضاء. ويتخلّل السرد مقاطع فنية من إبداعات الشباب المشاركين، تنسج بخفة مع القصة العامة للعمل، لكنها في جوهرها انعكاس حقيقي لحياة هؤلاء المراهقين وبيئتهم.

وفي “علِّي صوتك” تنطلق الحكاية مع أنس مغني الراب السابق، الذي يصل إلى حي سيدي مؤمن بحثًا عن المركز الثقافي حيث سيباشر عمله الجديد معلم موسيقى الهيب هوب. وهناك تبدأ لقاءاته مع فتيات وفتيان الحي من عشّاق الراب، لتتشابك قصصهم وتجاربهم على الشاشة في نسيج واحد.

ولا يعد حي سيدي مؤمن مركزيًّا في قصة فيلم “علِّي صوتك” فقط لأن فيه تدور أغلب أحداث الفيلم، إنما يمثّل كذلك مع الموسيقى الرابط الأساسي الذي يجمع أبطاله: فهؤلاء الشباب يعانون من الفقر والتمييز على أساس اللون والجنس والقمع السياسي لأنهم من أبناء سيدي مؤمن الحي البسيط الذي قُمِع شبابه وفتياته كما قُمِع آباؤهم من قبل، ويُجبرون على العيش على هامش المجتمع.

شاركها.
اترك تعليقاً