في ظل الأحداث المأساوية التي يشهدها قطاع غزة، تتصاعد المخاوف بشأن التدمير الممنهج للتراث الثقافي والآثاري الفلسطيني. فمنذ بداية العدوان الإسرائيلي على القطاع، وثقت التقارير الدولية والأهلية عمليات قصف وتدمير واسعة النطاق لمواقع تاريخية ودينية ذات قيمة لا تقدر بثمن. هذا الفعل ليس مجرد خسارة مادية، بل هو محاولة لتهويد الذاكرة الفلسطينية وطمس الهوية الثقافية العريقة التي تمتد لقرون. إن الوضع المأساوي الذي تمر به الآثار في غزة يستدعي وقفة جادة من المجتمع الدولي لإنقاذ ما تبقى وحماية التراث الإنساني المشترك.

حجم الدمار في الآثار بغزة: حرب على الهوية

كشفت الأحداث الأخيرة، بعد فترات الهدنة المؤقتة، عن حجم الضرر الهائل الذي لحق بالمواقع الأثرية في غزة. لم يقتصر الأمر على الأضرار الناجمة عن القصف المباشر، بل امتد ليشمل السرقة والتخريب المتعمدين. وقد تركز الدمار بشكل خاص على المواقع التي تمثل الذاكرة التاريخية الفلسطينية وتؤكد على حقها في الأرض.

يعمل الاحتلال الإسرائيلي منذ بداية الأحداث على تدمير البنية التحتية في قطاع غزة، والتي تشمل أيضاً المواقع الأثرية التي تعتبر جزءاً لا يتجزأ من النسيج المجتمعي والثقافي. هذا التدمير يهدف إلى إضعاف الروح المعنوية للفلسطينيين وحرمانهم من تاريخهم وإرثهم.

أبرز المواقع الأثرية المدمرة

أفاد مدير عام وزارة السياحة والآثار في غزة، زكريا الهور، بتدمير كامل أو جزئي لـ 316 موقعاً ومبنى أثرياً. وشملت هذه المواقع:

  • المسجد العمري الكبير: يعود هذا المسجد إلى العهد الراشدي في القرن السابع الميلادي، وكان يعتبر من أهم المساجد في غزة.
  • قصر الباشا: الذي يعود تاريخه إلى العصر المملوكي (1260 م) وكان يعمل كمتحف للآثار يحتوي على أكثر من 20 ألف قطعة. اختفت هذه القطع بعد قصف واجتياح القوات الإسرائيلية للمكان.
  • حمام السمرة: يعود إلى القرن الرابع عشر الميلادي، وهو مثال رائع على العمارة الإسلامية في تلك الفترة.
  • سباط العلمي: الذي يمثل رمزاً للتاريخ المعماري المملوكي في غزة.
  • كنيسة بيرفيريوس: من أقدم الكنائس في فلسطين، وتمثل تحفة معمارية بيزنطية.
  • مسجدي الظفردمري وابن عثمان: بالإضافة إلى العديد من المساجد والمباني الأثرية الأخرى.

إن تدمير هذه المواقع ليس مجرد خسارة للتراث المعماري والفني، بل هو خسارة للذاكرة الجماعية للشعب الفلسطيني.

سرقة الآثار كجزء من الحرب

لم يقتصر الأمر على التدمير، بل وثقت تقارير عن عمليات سرقة للآثار من المواقع المتضررة، وخاصة من متحف قصر الباشا. ولم يتم العثور على أي من المقتنيات الأثرية بعد انسحاب القوات الإسرائيلية، مما يشير إلى عملية منظمة لنقل هذه الآثار إلى جهات مجهولة. هذه السرقة تعتبر انتهاكاً صارخاً للقانون الدولي، وتدل على تصميم الاحتلال على محو الهوية الفلسطينية.

جهود الترميم المحدودة والاحتياجات الملحة

تواجه وزارة السياحة والآثار في غزة صعوبات كبيرة في جهودها لترميم المواقع الأثرية المتضررة. ويرجع ذلك بشكل أساسي إلى منع الاحتلال إدخال مواد البناء والآليات اللازمة لإجراء الترميمات. ومع ذلك، بدأت الوزارة بتنفيذ ما وصفته بـ “الإسعافات الأولية الطارئة” لبعض المواقع، بهدف الحفاظ على ما تبقى منها.

وتقدر التكلفة التقديرية لإعادة ترميم المباني الأثرية المتضررة بحوالي 50 مليون دولار. هذا المبلغ يتطلب تضافر الجهود من المؤسسات العربية والدولية المختصة، وتوفير الخبرات اللازمة لإعادة إحياء هذا التراث العريق. بالإضافة إلى ذلك، هناك حاجة ماسة إلى تدخل دولي لضمان عدم تكرار عمليات التدمير والسرقة في المستقبل. الحفاظ على التراث الفلسطيني مسؤولية جماعية تتطلب تحركاً عاجلاً من جميع الأطراف المعنية.

تأثير الدمار على القطاع السياحي

بالتزامن مع تدمير المواقع الأثرية، تعرض القطاع السياحي في غزة لدمار شامل. فمعظم الفنادق والمتنزهات والمرافق الترفيهية إما دمرت بشكل كامل أو تضررت بشدة. وقد أوضح الهور أن حوالي 85% من المنشآت السياحية في غزة دمرت، فيما تعرض 10% لأضرار جزئية، والباقي لأضرار متوسطة.

وقدرت الخسائر الأولية في القطاع السياحي والترفيهي بحوالي ملياري دولار، مما أدى إلى فقدان أكثر من 7 آلاف عامل لوظائفهم. هذا الدمار يعيق بشكل كبير جهود التنمية الاقتصادية في غزة ويزيد من معاناة السكان. تأثير الحرب على السياحة في غزة كارثي، ويتطلب خطة شاملة لإعادة الإعمار والإنعاش.

نحو مستقبل أفضل: إعادة إحياء التراث

على الرغم من الظروف الصعبة، لا يزال هناك أمل في إعادة إحياء التراث الثقافي والأثري في غزة. وتسعى وزارة السياحة والآثار إلى إعداد خطط لإعادة النهوض بالقطاع السياحي، من خلال تنظيم ورش عمل والتعاون مع المجتمع المحلي والمؤسسات ذات العلاقة.

يتطلب ذلك توفير الدعم المالي والفني اللازم، وتسهيل دخول الخبراء والمواد اللازمة لإجراء الترميمات. كما يتطلب ذلك جهوداً دبلوماسية مكثفة للضغط على الاحتلال الإسرائيلي لوقف انتهاكاته والتزامه بالقانون الدولي. إن إعادة بناء غزة يجب أن تشمل حماية وإعادة تأهيل تراثها الثقافي والأثري، لضمان استمرار هذا الإرث للأجيال القادمة.

شاركها.
اترك تعليقاً