وثق النتاج الإبداعي للقاص والروائي الفلسطيني عبد الله تايه، الفائز بجائزة غسان كنفاني 2024، معاناة الموت والتشرد وفقدان الأحبة في قطاع غزة. ويحكي بلغة سلسة جاذبة في مفرداتها ورموزها نبض حياة الغزيين، ويصور واقع العدوان المتواصل منذ سنوات وما يخلفه من دمار وتخريب على الإنسان والأرض.
برؤية إنسانية اتخذت من الإبداع عنوانا وأسلوبا سرديا متألقا، بعيدا عن الاستعراض أو التقعر في اللغة، وبثراء في الحوارات، عايش -الروائي المقيم في غزة- الألم الفلسطيني وحوله إلى شهادة إنسانية تروى للأجيال المقبلة، مما لاقى استحسان النقاد والمثقفين والمهتمين.
وباستعراض سريع لروايته الجديدة “مذاقات الموت والركام” الصادرة عن دار المصرية السودانية الإماراتية للطباعة، نلمس صرخة تعبر عن الصمود الفلسطيني في مقارعته للمحتل، وتؤرخ لحكايا الحرب وويلاتها، وتعكس مشاعر الغضب في لمسة سردية تتمسك بالصمود ومقاومة العدو، وترفض رفع الراية البيضاء.
والقاص والروائي عبد الله تايه، فاز عن روايته “وجع لا بد منه” بجائزة غسان كنفاني للرواية العربية 2024، وحاز على وسام دولة فلسطين للثقافة والعلوم والأدب 2022. كما اختارته وزارة الثقافة شخصية العام الثقافية، وحصل على الجائزة التقديرية لبيت الصحافة 2022. وتم اختياره من مؤسسة الصحافة العالمية ضمن أفضل الكتاب عام 2009، كما اختاره “البرلمان الدولي للكتاب” لمنحة تفرغ للكتابة لمدة سنتين في المكسيك عام 2003.
وتحوَّلت قصته “أنا لا أحب القتل” إلى فيلم قصير فاز بالجائزة الفضية في مهرجان القاهرة للإذاعة والتلفزيون. وصدر له 25 مؤلفا متنوعا، من بينها مجموعات قصصية مثل: “من يدق الباب”، “الدوائر برتقالية”، “البحث عن إيقاع مستمر”، “انفلات الموج”، “جنود لا يحبون الفراشات”، “ما قاله الرواة عن الحواري”، و”قصص من غزة”. وقد تُرجمت بعض قصصه إلى الإنجليزية والإيطالية والإسبانية.
أما رواياته، فمنها: “الذين يبحثون عن الشمس”، “العربة والليل”، “التين الشوكي ينضج مبكرا”، “وجوه في الماء الساخن”، “قمر في بيت راس”، و”الحرب على غزة”.
وقال إنه حاول تصوير النازحين في إحدى المدن الهادئة، واحتفظ في ذاكرته بصور البؤس والفقر والجوع وإقامة الخيام. وأضاف: “ما حدث في غزة كان أكبر من أية لغة… اللغة لم تكن تسعفك مهما كنت بارعا”، داعيا المثقفين الذين سخروا أقلامهم في تصوير حياة البؤس والمخيمات، ثم انهزمت أحلامهم، إلى معاودة النهوض وبث الأمل في مستقبل يعيشون فيه كغيرهم من الشعوب.
وفي حديثه للجزيرة نت اعتبر أن البطل الحقيقي هو جمهور “الناس الذين وقفوا بصمود بين واقعين: النزوح والخوف من القصف، والمأساة التي فرضت عليهم من دون إرادتهم… هم أبطال الرواية بصبرهم وقلقهم وحزنهم وموتهم، وهم الخلفية لمسرحية القتل”.
-
في روايتك “مذاقات الموت والركام”، تروي حكاية غزة وحياة أهلنا في الخيام، ومعاناتهم من البرد والجوع والتدمير الممنهج على يد أقذر جيش عرفه التاريخ. ماذا تختزن ذاكرتك بعد 470 يوما من الصمود والتضحيات؟
في روايتي الأخيرة “مذاقات الموت والركام – الحرب على غزة”، نزحتُ عن بيتي إلى مدينة أخرى. سمعت ورأيت القصف والموت، والركام يملأ الطرقات والأزقة والشوارع. أرسل الجيش تحذيراته للإخلاء عبر منشورات ورقية أسقطتها إحدى طائراته، وحين ذهب الناس، خاصة الأطفال، لالتقاط هذه المنشورات، تبين أن مدينة غزة والشمال ستصبح مناطق غير آمنة.
وعلى مدى أكثر من عام، تابعت أخبار الموت والقصف والتهجير، ورأيت كيف بدأنا نقيم الخيام وسط انتشار البؤس والفقر والجوع والمرض والموت. واكتشفنا أنه لا مكان آمن. لا تزال تلك الأحداث والصور راسخة في الذاكرة، ولن تمحوها الأيام.
حاولت تصوير حال النازحين في إحدى المدن التي اتسمت دائما بالهدوء في مختلف فترات الصراع، لكن اللغة لم تكن تسعفني، مهما كنت بارعا في السرد. ما يحدث كان أعظم من أي لغة وأكبر من أي تصور.
الناس الغلابة البؤساء هم أبطال الرواية بصبرهم وقلقهم وحزنهم وموتهم.
-
الأدب الفلسطيني في أغلبه أدب مقاوم، ويبدو أن هذا قدره… أو تعبير عن الحنين للوطن. في ظل الظروف الصعبة، يبرز بطل. من وجهة نظرك، من يكون بطل المرحلة روائيا؟
في هذه الشهور المؤلمة والقاسية، التي لا تزال مستمرة، يبرز البطل الحقيقي، وهم الناس الذين لا حول لهم ولا قوة؛ أولئك الذين وقعوا بين واقعين: واقع النزوح والخوف من القصف والموت، وواقع المأساة التي فرضت عليهم من دون إرادتهم. فالناس الغلابة البؤساء هم أبطال الرواية بصبرهم وقلقهم وحزنهم وموتهم، أما البيوت والقبور والركام، فهي بطل الخلفية لمسرحية القتل.
-
الثقافة رافعة وطنية تعيد الأمل فما المطلوب من المثقفين في مرحلة بقي فيها شعبنا وحيدا في التصدي للمشروع الصهيوني الذي يخطط لابتلاع فلسطين
المثقفون والكتّاب والأدباء والفنانون، منذ بدايات القرن الماضي وحتى الآن، كان لهم دور ثقافي وأدبي وفني رافق تطورات القضية الفلسطينية منذ الانتداب وحتى اليوم، في مختلف مراحل التغيير.
ورغم هذا الزمن الطويل، الذي لم يحقق لقضية فلسطين أي حل عادل، ظل هؤلاء الذين سخروا أقلامهم لتصوير حياة البؤس والمخيمات والاقتلاع، يأملون في مستقبل أفضل. وكلما انهزمت أحلامهم، عاودوا النهوض وبثوا الأمل في مستقبل يعيشون فيه كغيرهم من شعوب الأرض. ويظل هذا الظلم التاريخي ماثلا أمام رغبة الحياة.
في التراث الفلسطيني، تودع الأمهات أبناءهن بالزغاريد، لكن مع ذلك، تبقى حسرة الفقد وألم الرحيل حاضرين على مدى الأيام.
-
كأديب فلسطيني سخر مشواره الإبداعي لخدمة وطنه وقضيته.. من وجهة نظرك لماذا تودع أمهاتنا الشهداء بالزغاريد؟ وما تقول للأم الفلسطينية المناضلة الصابرة؟
كلما سقط الأبرياء في القصف، تعلو زغاريد الأمهات اللاتي يعتززن ويثقن بأن أرواح أبنائهن في حواصل طيور خضر في الجنة. إن هذه الزغاريد، في الغالب، لا يمكن أن تكون زغاريد فرح، فهل هناك إنسان يمكن أن يفرح لمقتل فلذة كبده، التي رواها سنوات طويلة بالسهر والألم؟! في التراث الفلسطيني، تودع الأمهات أبناءهن بالزغاريد، لكن مع ذلك، تبقى حسرة الفقد وألم الرحيل حاضرين على مدى الأيام.
-
وجهت رسالتين إلى روح الشهيدة “فاطمة أبو جش” و”ختام تايه”. ماذا قلت لـ”ختام” حين وقفت أمام بيتها في جباليا؟ وأي رسالة يمكن توجيهها إلى شهداء طوفان الأقصى، ومخيمات الضفة الغربية المحتلة، ومدنها؟
الشهيدة فاطمة أبو جش من الضفة الغربية، و”ختام تايه” ابنة جباليا، وعمرها حين استشهدت كان في الـ12 من عمرها. وهما شخصيتان حقيقيتان قتلتا ظلما. ربما كنت أود باختيارهما الإشارة إلى وحدة المكانين، وأن الظلم يسود فيهما معا، وأن القاتل لا يقدر حياة الأبرياء في المكانين الفلسطينيين. في هذه المقتلة الكارثية، أتساءل: إلى متى؟ ولماذا؟ وهذا الاحتلال، أما له من نهاية؟
وفي الحوار السهل الممتنع قبل استشهاد ختام، حين وقفت أمام بيتها، نقتبس: “ختام، أسرعي إلى السطح… هناك سترين بوضوح أكبر قنابل الفوسفور التي سمعنا عنها ورأيناها في التلفزيون… وعندما صعدنا، في تقافز طفولي، تذكرنا الدبابيس الفضية الكثيرة اللامعة التي زيّنت ثوب العروس ليلة احتفال زواج بنت الجيران قبل أيام”.
-
في مجموعتك القصصية “من يدق الباب”، تصوّرين نماذج إنسانية فلسطينية في قطاع غزة، وترصدين الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية… فما الذي يمكن رصده أو تشخيصه في ظل مخرجات العدوان الإسرائيلي؟
في بداية كتاباتي، كنت أنا ومجموعة من الكتاب والأدباء في أواسط السبعينيات، ومنهم المرحومان غريب عسقلاني وزكي العيلة، نرى المظاهر العيانية للاحتلال العسكري: من عربات عسكرية، وجنود، وبنادق، وحواجز، وكل مظاهره المرئية.
ثم تبين بعد ذلك أن للاحتلال وجها آخر غير مرئي يؤثر في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية. فكانت مجموعتي القصصية “من يدق الباب” وما تلاها من مجموعات قصصية تحاول التعبير عن بعض هذه المضامين، خاصة بؤس المخيمات وأحوال ناسها.
-
في مجموعتك “العربة والليل”، حضر سجناء الحرية وتحدثت عن رغبة الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي في الحياة بسلام. فهل يمكن العيش المشترك بين صاحب الأرض وسارقها؟
رواية “العربة والليل” نُشرت عام 1982، وجاءت بعد المتغيرات في ميثاق منظمة التحرير الفلسطينية، وبعد العلاقات الكبيرة مع اليسار الإسرائيلي وشخصيات فلسطينية في الداخل وفي أوروبا. وجاء في الرواية الحديث عن الآخر وإمكانية الحل معه بما يحفظ الحقوق الفلسطينية. وفي الرواية، توجد شخصيات يهودية وفلسطينية، وكل منهما يتحدث عن ظروفه ولجوئه وهجرته، وتفهم كل منهما لاحتياجات الآخر.
وتطرح الرواية الوضع الطبقي للفقراء في الجانبين “الفلسطيني والإسرائيلي” واستغلالهم من قبل أصحاب العمل، ورغبة الطرفين في الحياة بسلام وقيام دولة فلسطينية مستقلة وعودة اللاجئين إلى قراهم ومدنهم التي طُردوا منها.
-
أهديت مجموعتي القصصية “ما قاله الرواة عن الحواري” للإنسان الذي “يرتدي ثيابي”. فمن تقصد بهذا المفهوم؟ إنسان عادي أم سوبرمان؟
الإهداءات في الكتابات الأدبية هي أسلوب شكر واحترام لمن بذل جهدا في تيسير طباعة ونشر الكتاب، أو الرقن على الكمبيوتر لتجهيزه، أو إهداء لشخص عزيز.
أنا، بعد 45 عاما، رأيت أن الإهداء في مجموعة “ما قاله الرواة عن الحواري” يجب أن يكون لمن كتب وقضى أياما قاسية في الكتابة ليبدع عملا ذا شأن؛ وهو الكاتب الذي أعد الكتابة عملا جادا وليس مجرد تسويد الصفحات بالحبر.
الأدب الإنساني هو أدب ذو قيمة عالية، وأنا، بعد هذه التجربة الطويلة، أرى نفسي كاتبا إنسانيا محبا للخير والسلام لكل الإنسانية.
-
الجوائز الأدبية، وفقا لبعض الآراء، تجعل الأدب سلعة، وهناك من يراها اعترافا بالإبداع.. فماذا ترى؟
من الواضح لكثير من الكتّاب أن كثيرا من الجوائز الأدبية محفوفة بشيء غامض من التوجه السياسي لمانحي الجوائز، سواء كانت عربية أو أجنبية. وهناك أمثلة كثيرة على ذلك لا مجال لسردها.
وإلا، لماذا لا يحصل عليها بعض الكتّاب الكبار ذوي القيمة والقامة الأدبية؟ ومن المعروف أن الفوز بهذه الجوائز يلفت نظر الناشرين والمترجمين الذين تعدّ هذه هي سلعتهم للتربح، في حين أن الكاتب يرى فيها تقديرا واعترافا بإبداعه.
لماذا لا يجربون إقامة دولة فلسطينية وإنهاء الاحتلال ليعم السلام في الإقليم؟
-
وأخيرا، من وجهة نظرك كمثقف وسياسي فلسطيني، كيف تنظر لدعوة الرئيس الأميركي ترامب لترحيل مليون فلسطيني من غزة إلى الأردن ومصر؟
هناك أمثلة كثيرة مرت منذ النكبة عام 1948م حتى الآن حول الترحيل، الذي هو بالأساس توجه الأحزاب الإسرائيلية اليمينية، التي طرحت ذلك بما سموه “ترانسفير”. كل هذه الأفكار فشلت ولم تنجح. لماذا لا يجربون إقامة دولة فلسطينية وإنهاء الاحتلال ليعم السلام في الإقليم؟ ولماذا دائما يفكرون فقط في الضغط على المظلوم؟