في خضمّ الذكرى السنوية لتحرير سوريا، أطلقت وزارة الثقافة السورية مبادرةً لإنشاء نشيد وطني جديد، سرعان ما أثارت جدلاً واسعاً بين المثقفين والجمهور على حد سواء. هذا الجدل لم يقتصر على تفاصيل المسابقة وشروطها، بل تعداه إلى مسائل دستورية تتعلق بتغيير الرموز الوطنية. يهدف هذا المقال إلى استعراض تفاصيل المسابقة، والانتقادات التي وجهت إليها، والتطورات اللاحقة، مع تسليط الضوء على تاريخ النشيد السوري وتغيراته عبر العقود.
إطلاق المسابقة وتفاصيلها المثيرة للجدل
في الحادي عشر من ديسمبر 2025، أعلنت وزارة الثقافة عن إطلاق مسابقة لتأليف كلمات وتلحين نشيد وطني جديد لسوريا. تزامنت هذه الخطوة مع ذكرى تحرير البلاد، وأرادت الوزارة من خلالها تجديد الرمزية الوطنية. تضمنت المسابقة معايير وشروطاً محددة للنص الشعري واللحن، مما أثار استياءً واسعاً.
معايير النص الشعري واللحن
ركزت معايير النص الشعري على الفصاحة والجزالة، والرمزية التي تعبر عن الهوية السورية، بالإضافة إلى الوزن والإيقاع والوضوح والجماهيرية. أما معايير اللحن، فقد اشترطت الأصالة، بمعنى أن يكون اللحن مبنياً على المقامات الشرقية السورية التقليدية (نهاوند، حجاز، رست)، إلى جانب القوة التعبيرية، والقابلية للأداء الجماعي، والعالمية. كما حددت الوزارة نهاية شهر ديسمبر/كانون الأول موعداً نهائياً لتسليم الأعمال.
هذه الشروط، وخاصةً شرط الأصالة الموسيقية والمهلة الزمنية القصيرة، كانت محور الانتقادات الرئيسية. فالعديد من الفنانين والمثقفين اعتبروا أن ثلاثة أسابيع مدة غير كافية لكتابة وتلحين عمل بهذا الحجم والأهمية.
ردود الفعل والانتقادات على وسائل التواصل الاجتماعي
سرعان ما انتشر خبر المسابقة على وسائل التواصل الاجتماعي، مصحوباً بموجة من الانتقادات والتعليقات الساخرة. اعتبر الكثيرون أن شروط المسابقة غير واقعية وتستبعد المواهب الشابة والمبتكرة. كما أثار ربط الكتابة بالتلحين استياءً، حيث يرى البعض أن الشاعر والملحن هما شخصان مختلفان بمهارات مختلفة.
من بين التعليقات اللافتة، ما كتبه محمد الجوير على صفحته في فيسبوك، حيث تساءل عن جدوى تحديد مهلة قصيرة لكتابة وتلحين نشيد وطني، واقترح أن يتم فصل عمليتي الكتابة والتلحين. في المقابل، أشاد منعم هلال بالمسابقة، معتبراً أنها فرصة لتجديد الرمزية الوطنية، وأنه يمكن للجمهور رفض النشيد الجديد إذا لم يرق لهم.
“الذهول الثقافي” والتساؤلات الدستورية
وصف نزار الصباغ شروط المسابقة بأنها تسبب “الذهول الثقافي”، مشيراً إلى أنها تفرض قيوداً صارمة على الإبداع. كما أثار رامي الحاج قدور تساؤلات حول قدرة لجنة التحكيم على تقييم النص واللحن في آن واحد.
إلى جانب هذه الانتقادات، برزت تساؤلات حول الجانب الدستوري للمسابقة. تساءل أحمد خياطة عما إذا كان يحق للوزارة تغيير النشيد الوطني دون موافقة مجلس الشعب أو قرار من السلطة العليا. أما عمر هزاع، فقد دعا الشعراء إلى مقاطعة المسابقة، معتبراً أنها محاولة لاختطاف الرمزية الوطنية. واقترح أن يتم اختيار النشيد الوطني بتوجيه من رئيس الجمهورية وتكليف من رئاسة الوزراء والبرلمان.
تراجع الوزارة وتعديل الشروط
في مواجهة الضغوط والانتقادات المتزايدة، أعلنت وزارة الثقافة عن تراجعها عن بعض شروط ومعايير المسابقة. وأصدرت الوزارة منشوراً على صفحتها الرسمية في فيسبوك، أعلنت فيه عن حذف الشرط المتعلق بالمقامات الموسيقية، وتمديد المهلة المخصصة لتسليم النصوص الشعرية في المرحلة الأولى، دون تحديد مدة التمديد. كما أعلنت عن وضع دليل إرشادي يتضمن بريداً إلكترونياً للاستعلام والمقترحات.
هذا التراجع يمثل اعترافاً ضمنياً بصعوبة الشروط الأصلية، ورغبة في إتاحة الفرصة لأكبر عدد ممكن من الموهوبين للمشاركة في المسابقة. ولكن، يبقى السؤال حول ما إذا كانت التعديلات ستكون كافية لإزالة الغموض وتلبية تطلعات الجمهور.
تاريخ النشيد السوري وتغيراته
لم يكن النشيد السوري الحالي هو الأول في تاريخ البلاد. فقد اعتمد أول نشيد وطني سوري في العهد الجمهوري عام 1938، وهو نشيد “حماة الديار” الذي كتب كلماته الشاعر خليل مردم بك ولحنه الأخوان فليفل. ارتبط هذا النشيد بالحركة الوطنية السورية ضد الاستعمار الفرنسي.
مع إعلان الوحدة بين سوريا ومصر عام 1958، تم اعتماد نشيد “والله زمان يا سلاحي” كنشيد وطني للدولة الاتحادية. ولكن، بعد انفصال سوريا عن مصر عام 1961، أُعيد اعتماد نشيد “حماة الديار” كنشيد وطني رسمي.
هذه التغيرات في النشيد الوطني تعكس التحولات السياسية والاجتماعية التي شهدتها سوريا على مر العقود. وتشير إلى أن اختيار النشيد الوطني ليس مجرد مسألة فنية، بل هو أيضاً مسألة سياسية ورمزية.
الخلاصة
إن مسابقة وزارة الثقافة السورية لتأليف نشيد وطني جديد أثارت نقاشاً مهماً حول الرمزية الوطنية والهوية السورية. على الرغم من التعديلات التي أدخلتها الوزارة على شروط المسابقة، إلا أن الجدل لا يزال مستمراً. يبقى أن نرى ما إذا كانت المسابقة ستنجح في إيجاد نشيد جديد يعبر عن تطلعات السوريين في المرحلة القادمة. من المهم أن تكون عملية اختيار النشيد الوطني شفافة وديمقراطية، وأن تأخذ في الاعتبار آراء جميع أطياف المجتمع السوري. كما يجب أن يكون النشيد الجديد تعبيراً صادقاً عن تاريخ سوريا وثقافتها وقيمها.















