لم يكن أحد يتخيل أن تتحول الشهرة يوماً إلى سلعة زهيدة، تُباع وتُشترى بالمتابعات والإعجابات، وتُصنع في ثوانٍ لا تتجاوز طول مقطع مصوّر. لقد أفرزت منصات التواصل الاجتماعي طبقة جديدة من (النجوم) الذين يملأون الفضاء الرقمي صخباً وضجيجاً، دون أن يمتلكوا موهبة حقيقية أو إنجازاً راسخاً. هم أولئك الذين يمكن أن نطلق عليهم اسم مشاهير الفلس؛ أشخاصٌ سطعوا في عالم افتراضي، لكنهم ظلوا فارغين من الداخل، يقدّمون ما يشبه (الوجود المستعار) المبني على الاستعراض لا على القيمة.

هذه الظاهرة ليست مجرد (مرحلة ترفيهية) أو موجة عابرة، بل هي انعكاس لبنية ثقافية واجتماعية أعمق. نحن نعيش زمنا يقدّس الصورة على حساب الجوهر، ويكافئ من يجيد إثارة الانتباه أكثر مما يكافئ من ينتج معرفة أو فنّاً أو فكراً. وبذلك تحوّلت الشهرة من قيمة اجتماعية تُمنح للمتميزين، إلى «قشرة لامعة» يمكن لأي شخص أن يقتنيها متى ما عرف مفاتيح الخوارزميات.

كيف يُصنع (نجم الفلس)؟

من يتأمل في مسيرة هؤلاء المشاهير يكتشف أن الأمر لا يحتاج إلى أكثر من ثلاث وصفات؛ الاستعراض المبالغ فيه: سواء كان استعراضاً للرفاهية المصطنعة أو للمواقف الغريبة أو حتى للمشاكل العائلية الخاصة.

واللعب على عاطفة الجمهور: عبر الإثارة، الفضائح، أو المحتوى الساخر الذي يجذب المتابعين بشكل سريع، والتكرار حدّ الترسّخ: فالمحتوى مهما كان فارغاً إذا تكرر سيجد له مكاناً في الذاكرة الجمعية.

المنصات الرقمية، بدورها، لا تفرّق بين ما هو عميق وما هو تافه؛ بل تكافئ ما يثير (التفاعل اللحظي). لذلك يصبح الطريق إلى الشهرة مفتوحاً أمام كل من يجيد الاستعراض أكثر مما يجيد الإبداع.

لماذا نتابعهم؟

اللوم هنا لا يقع على المشاهير وحدهم، بل على الجمهور أيضاً. فالمتابع الذي يمنح وقته وإعجابه ومشاركته هو الذي يصنع هذه النجومية الهشّة. السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا ينجذب الناس إلى هؤلاء؟

• لأنهم يقدّمون تسلية سهلة: لا تحتاج إلى جهد عقلي، بل تُستهلك بسرعة وتُنسى بسرعة.

• لأنهم يملأون فراغاً نفسياً واجتماعياً: فالمتابع يجد في متابعة حياتهم اليومية تعويضاً عن رتابة حياته الخاصة.

• لأننا نعيش في عصر المقارنة: حيث يقيس الأفراد أنفسهم بما يرونه على الشاشات، حتى لو كان وهمياً أو مصطنعاً.

وبذلك يصبح المشاهير أشبه بـ(مرايا معكوسة)، تعكس أحلام الناس الصغيرة وتضخمها، وتمنحهم وهماً بالانتماء إلى عالم باذخ لا يمتّ لواقعهم بصلة.

الآثار الاجتماعية والنفسية

انتشار هذه الظاهرة لا يمرّ من دون آثار. فهي تترك بصمات واضحة على المجتمع، خصوصاً الأجيال الجديدة التي تشكّل وعيها من خلال هذه المنصات؛ منها تشويه الذائقة العامة: إذ يصبح المعيار هو عدد المشاهدات لا نوعية المحتوى، وإضعاف الطموح الحقيقي: حين يرى الشباب أن الشهرة يمكن أن تتحقق بلا جهد، يفقدون الحافز للسعي وراء التميز العلمي أو الفني، ورفع شأن قيم استهلاكية سطحية: تُقدّم الرفاهية المصطنعة كقيمة عليا، بينما يتوارى العمل الجاد خلف الكواليس، وتحبط المبدعين الحقيقيين: إذ يجدون أنفسهم في منافسة غير عادلة مع من يملكون الجرأة على الاستعراض أكثر من الموهبة على الإنتاج.

ربما يقول البعض إن لهذه الظاهرة وجهاً مضيئاً؛ إذ منحت المنصات فرصة لأشخاص عاديين كي يعبّروا عن أنفسهم، وكسرت احتكار الإعلام التقليدي للأصوات. هذا صحيح من حيث الشكل، لكن الحقيقة أن معظم هذه الأصوات مشوشة، تكرّس السطحية أكثر مما تفتح أفقاً للحوار.

المعركة هنا ليست مع الأفراد. ليس الذنب ذنب الشاب الذي يقلّد موضة غريبة ليحصل على آلاف المشاهدات، ولا الفتاة التي تبالغ في استعراض حياتها اليومية طلباً للانتشار.

و ما نحتاجه هو: إعادة بناء الذائقة العامة عبر التعليم، والإعلام، والنقد الواعي، وتشجيع المحتوى الجاد الذي يجمع بين المتعة والمعرفة، وإحياء دور النقد الصحفي والثقافي الذي يميّز بين الظاهرة الصحية والظاهرة المريضة، وتعليم الأجيال الجديدة مهارات التلقي الواعي كي لا يصبحوا مجرد مستهلكين للصور، بل قادرون على التفريق بين ما يستحق المتابعة وما لا يستحق.

أخبار ذات صلة

 

شاركها.
اترك تعليقاً