“ترتعد فرائص المستبدّ من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية، والفلسفة العقلية، وحقوق الأمم وطبائع الاجتماع، والسياسة المدنية، والتاريخ المفصل، والخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي تكبّر النفوس وتوسّع العقول وتعرّف الإنسان ما هي حقوقه وكم هو مغبون فيها، وكيف الطلب وكيف النوال، وكيف الحفظ.

وأخوف ما يخاف المستبد من أصحاب هذه العلوم المندفعين منهم لتعليم الناس بالخطابة أو الكتابة وهم المعبّر عنهم في القرآن بالصالحين والمصلحين في نحو قوله تعالى: “أن الأرض يرثها عبادي الصالحون”، وفي قوله: “وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون” وإن كان علماء الاستبداد يفسرون مادة الصلاح والإصلاح بكثرة التعبد، كما حولوا معنى مادة الفساد والإفساد: من تخريب نظام الله إلى التشويش على المستبدين”.

عبد الرحمن الكواكبي في “طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد”.

سياسات القبول الجامعي

تبدأ الأزمة في التعليم الشرعي الجامعي في عدد من دول العالم العربي قبل دخول الجامعة، وقبل الشروع في تلقّي العلم الشرعي.

فما إن تعلن نتائج الامتحانات المرحلة الثانوية أو “التوجيهي” حتى يبدأ السؤال المؤرّق للطالب والأهل معا عن المستقبل الجامعي الذي يحدد غالبا مسار الحياة المقبلة كاملة.

وفي قائمة التخصصات تستقر كليات الشريعة وأصول الدين في الذيل على الدوام، لتكون كلأ مباحا لكل من لم تسعفه درجاته المتدنية ومعدله الضعيف بالحصول على تخصص “محترم”!

لا يمكن على الإطلاق فصل هذا المشهد عن الواقع السياسي في عدد لا بأس به من الدول العربية؛ هذا الواقع الذي يرى حكامه وأجهزتهم المخابراتية أن كليات التعليم الديني ومعاهده تمثل بؤرا لتفريخ المخاطر التي تتهدد النظم المستبدة.

فلا يخاف المستبد من شيء خوفه من التنوير الديني، ولا يرهب الطاغية شخصا رهبته من شخص استطاع أن يقدم للناس الإسلام الطافح بالعزة والحرية ورفض الخنوع للطغاة والمستبدين والفاسدين.

إن بعض سياسات القبول في كليات الشريعة يتعمّد تخفيض معدلات القبول، حتى كان ‏الشائع في بعض الدول كسوريا مثلا في سنوات كثيرة أن كلية الشريعة مكتوب إلى ‏جانبها في نتائج المفاضلات الجامعية “جميع المتقدمين”‏؛ تلك ليست سياسات بريئة أو خاضعة لسوق العرض والطلب كما يحاول القائمون على التعليم تبريرها وتسويغها، بل هي سياسات متعمدة تصنع في أروقة أجهزة المخابرات التي ترسم الإطار العام والتفصيلي لكل شؤون الحياة في هذه الدول بما يحقق مصالح الحكام والأنظمة الحاكمة ليس غير.

سياسات للتخريب المتعمد بقصد تحقيق الهيمنة على هذه المؤسسات والمتخرجين منها بسهولة وإفقادهم أثرهم ودورهم في المجتمع والحياة.

بل إن الأمر تعدى ذلك في بعض الأحيان كما في سوريا عقب ثورة الثمانينيات إذ خص النظام كلية الشريعة في جامعة دمشق دون ‏غيرها من الكليات بإمكان ‏الالتحاق بها بناء على الانتماء لحزب البعث دون اعتبار مجموع دراسي، ‏فكان ‏يدخلها الحزبيون ممن لم يصلوا إلى المعدل المطلوب الذي هو في الحضيض أصلا ‏ ‏لدخولها‏؛ فقط بناء على انتمائهم الحزبي.‏

وقد كان الهدف من ذلك تشكيل تيار عريض من الخريجين الشرعيين ممن يحملون أفكار حزب البعث ويتبنّون سياسته.

سياسات القبول هذه في كليات الشريعة أتاحت للمنخنقة والموقوذة والمتردّية والنطيحة من الطلاب أن يجدوا ملاذا لهم في الجامعات.

غدت الكليات الشرعية تزخر بالفاشلين دراسيا، وأمسى وجود المتميزين والمتفوقين الذين أقبلوا على دراسة العلوم الشرعية رغبة واقتناعا كالساقية الكليلة إلى جانب النهر الجارف فلا تكاد يظهر لها أثر.

تشويه التعليم الشرعي في الوعي الجمعي

سياسات القبول هذه ترافقت مع تشويه إعلامي عموما لدارسي العلوم الشرعية، إضافة إلى غياب فرص العمل المجدية للمتخرجين في هذه الكليات، فالوظائف الدينية هي من الفرص النادرة كما أنها من أقل الوظائف من حيث المردود المادي.

كذلك استقر في الوعي الاجتماعي في المجتمع العربي بعمومه بفضل ‏سياسات القبول الجامعية أن دراسة العلوم الشرعية وقف على المنخنقة والموقوذة ‏والمتردية والنطيحة.

كل ذلك بنى سدودا نفسية بين عامة الناس وبين الدخول في كليات الشريعة، وغدا المتميزون الذين يرغبون بالدراسة في هذه الكليات يواجهون رفض الأهل في أحيان كثيرة، كما أنهم يجدون أنفسهم في مواجهة مجتمع يستنكر عليهم تضييع تميزهم وتفوقهم في الكليات الشرعية.

وتبدأ محاولات الإقناع بأنه بإمكان هذا المتميز أن يحقق ثقافته الشرعية من الكتب والدروس المسجدية دون الاضطرار إلى الالتحاق بهذه الكليات، فيقلّ عدد المتميزين لمصلحة الذين لم يجدوا ملجأ للعجزة يؤويهم غير كلية الشريعة.

نتائج كارثية وواجبات منتظرة

ومن أهم المآسي التي استطاعت الأنظمة الاستبدادية تحقيقها أنها ألبست شريحة من الفشلة عمائم وبثتهم في المجتمع ليكونوا هم الدعاة والوعّاظ وملح البلد!

وغدا المتميزون من أهل العلم الشرعي والخريجون في هذه الكليات في مأزق محرج بين إثبات الذات من جهة في واقع استبدادي يحاربهم ويشوههم، وبين تنقية الشريعة وصورتها من دغل هؤلاء الفشلة المحسوبين على الوسط الشرعي والدعوي!

عندما يتاح للمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة أن تتوسّد مقاعد كليات الشريعة فلا تتأمل غير النتيجة التي تراها اليوم من تردٍّ في الخطاب الشرعي، ولا تتوقع غير الكوارث المضحكة التي تطالعنا صباح مساء من هذا الوسط المتعوب عليه.

إن حالة التردّي في مستوى العلم الشرعي لها أسبابها الكثيرة، غير أن مبتدأها ورأسها يكمن في السياسات المتبعة في القبول وفي إرادة الأنظمة الاستبدادية إغراق المجتمع بهذا النوع من ممثلي الشريعة!

وهذا يوجب على القائمين على كليات التعليم الشرعي الجامعي في البلدان التي يتاح لهم فيها تحديد معدلات القبول، سواء في بلدانهم أو في بلدان المهجر حيث يكون هامش الحرية في العمل والقرار أوسع، أن يراجعوا سياسات القبول فلا يكرروا من حيث لا يدركون المنهجية التخريبية في قبول كل مزهود به في كليات التخصص الأخرى.

كما أنه يغدو من الضروري أن تنشأ كليات متخصصة في التعليم الشرعي للمتميزين بحيث يلقون فيها عناية خاصة، مع تخطيط حقيقي للإفادة منهم عقب الانتهاء من الدراسة ليكونوا هم رواد العمل العلمي الشرعي والدعوي في المجتمعات التي ملّت من عبث المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة بالمشهد الشرعي.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.