وسط صعود الإنتاج السينمائي في دول الخليج، يبرز الفيلم الكويتي “وحش حولّي” كمحاولة فنية جريئة لاستكشاف أعماق الجريمة وتحويل تفاصيل قضايا حقيقية ومؤلمة إلى عمل درامي مشوق. الفيلم، الذي أثار جدلاً واسعاً، ليس مجرد إعادة تمثيل لأحداث مروعة، بل هو بحث في النفس البشرية، وتأثير الصدمة على الأفراد والمجتمع، ويثير تساؤلات حول حدود سردية الجريمة ومسؤولية الفن.
“وحش حولّي”: من مسلسل إلى شاشة أوسع
“وحش حولّي” بدأ كجزء من مسلسل درامي يحمل الاسم نفسه، أنتجته منصة “شاشا” الكويتية خلال العام 2025. المسلسل “وحوش” ضم 10 حلقات مستوحاة من قضايا جنائية حقيقية هزت المجتمع الكويتي، حيث تخصص حلقتان أو ثلاث لكل قضية للغوص في تفاصيلها النفسية والاجتماعية.
النجاح الذي حققه المسلسل دفع “نتفليكس” إلى دمج الحلقات وتقديم كل قضية كفيلم مستقل، مما أتاح للعمل وصولاً أوسع لجمهور دولي. على الرغم من أن المسلسل تناول عدة جرائم، إلا أن فيلم “وحش حولّي” تصدر المشاهدات والتداول عبر وسائل التواصل الاجتماعي نظراً لجرأة الموضوع وحساسيته البالغة.
تفاصيل القضية: رحلة في أعماق التحقيق والجريمة
تدور أحداث الفيلم حول شخصية “حجاج”، المتهم بالاعتداء الجنسي على 17 طفلاً، وتركز القصة على التحقيقات الشرطية المكثفة التي تهدف إلى الإيقاع به. تعتمد الحبكة بشكل كبير على تقنيات “الفلاش باك” (العودة بالزمن) لاستعراض قصة “حجاج” وكيف وصل إلى الكويت، ثم كيف بدأ في استهداف ضحاياه. الفيلم لا يكتفي بعرض الجريمة، بل يحاول الإشارة إلى بعض الأسباب والدوافع التي حولت هذا الشخص إلى “وحش” فقد الإحساس بالضمير.
الفيلم يمثل دراما جريمة نفسية معقدة، حيث يركز على التأثير المدمر للجريمة على الضحايا وعائلاتهم، وعلى الضغوط النفسية التي يتعرض لها المحققون الذين يسعون لكشف الحقيقة.
رهان الفيلم على أصالة القصة والتمثيل المتقن
تعتمد قوة “وحش حولّي” بشكل أساسي على ارتباطه بواقعة حقيقية هزت منطقة حولّي في الكويت عام 2007، حيث شهدت المنطقة سلسلة جرائم بشعة استهدفت براءة الأطفال. هذا الارتباط بالواقع يُضفي على الفيلم جاذبية خاصة، حيث يميل الجمهور إلى متابعة القضايا التي تثير خوفهم أو صدمتهم، ورغبتهم في فهم ما حدث.
الأداء التمثيلي القوي ساهم أيضاً في نجاح الفيلم. الفنان الكويتي بشار الشطي قدم أداءً متميزاً في دور المحقق، ونال إشادات واسعة من النقاد. كما حظي الممثل المصري محمد يوسف “أوزو” بتقدير كبير لدوره في تجسيد شخصية “حجاج”، حيث نجح في إبراز الجوانب النفسية المعقدة للشخصية. إدارة المخرج محمد سلامة للفنانين كانت حاسمة في إخراج هذه الانفعالات الدقيقة.
“وحش حولّي” بين التوثيق والمسؤولية الفنية
أحد أبرز جوانب الفيلم الإيجابية هو اقتصاده في عرض مشاهد العنف، واعتماده على الإيحاء بدلاً من التصوير المباشر، وذلك تقديراً لحرمة الضحايا ومشاعرهم. هذا الأسلوب ساهم في تحفيز خيال المشاهد، وتعزيز الشعور بالتوتر والقلق، كما عززته اللوحة اللونية الداكنة التي خلقت جواً من المراقبة واللايقين.
لقد اختار صناع الفيلم زاوية سردية ذكية من خلال تتبع خيوط التحقيق، وجمع الشهادات، وتقسيم القصة إلى مراحل، مما خلق بنية درامية متماسكة أشبه بالمتاهة التي تقود المشاهد من الشك إلى اليقين تدريجياً. هذا الإيقاع التصاعدي ساعد في الكشف عن الطبقات النفسية والدوافع لكل من المحققين والضحايا والمجتمع المتأثر.
جدل الفيلم وردود الفعل المتباينة
أثار فيلم “وحش حولّي” نقاشاً مجتمعياً واسعاً حول قضية حساسة للغاية. في حين ساهم الفيلم في رفع الوعي المجتمعي حول مخاطر الاعتداء على الأطفال، إلا أنه تسبب أيضاً في استحضار الصدمة لدى بعض المشاهدين الذين عاصروا القضية الأصلية، أو الذين لديهم تجارب شخصية مماثلة.
في مصر، أثار الفيلم جدلاً أكبر بسبب حساسية القضايا الاجتماعية، ومخاوف تتعلق بالصورة الذهنية للجاليات المصرية، خاصة وأن الفيلم تم عرضه على منصة “نتفليكس” العالمية. بعض المصريين عبروا عن قلقهم من أن الفيلم قد يساهم في ترسيخ صورة سلبية عن المصريين، وإسناد دور الجاني إلى ممثل مصري بينما يلعب ممثل كويتي دور المحقق أثار استياء البعض.
ومع ذلك، رأى آخرون أن هذه الانتقادات غير مبررة، خاصة وأن الدراما المصرية نفسها قدمت العديد من القصص المشابهة، مثل مسلسلي “سفاح الجيزة” و “سفاح التجمع”.
“وحش حولّي”: سينما على الجرح أم ضرورة مجتمعية؟
“وحش حولّي” هو فيلم يلامس منطقة وعرة بين التوثيق الدرامي والسرد القصصي. إنه عمل فني محكم يوازن بين الإثارة والمسؤولية، ويحاول أن يفكر في ما بعد الجريمة، وفي دور الفن في معالجة القضايا الاجتماعية الصعبة.
الفيلم يمثل قيمة توثيقية مهمة، حيث يعيد ترتيب ملفات الذاكرة العامة، ويسهم في رفع الوعي الوقائي لدى الأهل والمؤسسات التعليمية. على الرغم من أن الفيلم ليس خالياً من العيوب، مثل بعض الإشكاليات في المونتاج، أو محدودية الخلفية الاجتماعية للجاني، إلا أنه يظل تجربة فنية تستحق التقدير والمشاهدة. “وحش حولّي” يثبت أن السينما الخليجية قادرة على تقديم أعمال جريئة ومؤثرة تتناول قضايا مجتمعية مهمة، وتثير نقاشات بناءة حول التحديات التي تواجه مجتمعاتنا. كما يبرز أهمية الدراما الاجتماعية في تسليط الضوء على هذه القضايا، وتقديم رؤى جديدة حولها.
في الختام، “وحش حولّي” ليس مجرد فيلم تشويقي، بل هو دعوة للتفكير في قضايا حساسة، وفي مسؤوليتنا تجاه حماية الأطفال، وبناء مجتمع أكثر وعياً ورحمة. نشجعكم على مشاهدة الفيلم، والانخراط في النقاش الذي أثاره، وتبادل الآراء حول هذا العمل الفني الجريء والمؤثر.















