أمستردام: مهرجان إدفا للأفلام الوثائقية يُطلق صرخةً في وجه الصمت العالمي
امتلأ مسرح كاريه الملكي الفخم في أمستردام بصناع الأفلام والنقاد وعشاق السينما الوثائقية من 76 دولة، في ليلة باردة شهدت افتتاح الدورة الـ38 من مهرجان أمستردام الدولي للأفلام الوثائقية “إدفا” (IDFA)، أكبر تظاهرة وثائقية في العالم. لكن هذه الدورة ليست كسابقتها، ففي ظل عالم يعج بالصراعات والحروب، اختار المهرجان أن لا يصمت، وأن يرفع صوته من خلال أفلام تتناول قضايا الاحتجاج والمقاومة والبحث عن الحرية. هذا العام، يمثل إدفا منصة حيوية لأصحاب الأصوات المهمشة، وشهادة على قوة السينما في مواجهة الظلم.
افتتاحية جريئة: تشريح الاحتجاج والثورة
لم يتردد مهرجان إدفا في اختيار مجموعة من الأفلام القصيرة لافتتاح فعالياته، والتي وصفها إيزابيل أراتي فيرنانديز، المديرة الفنية للمهرجان، بـ”تشريح للاحتجاج”. هذه الأفلام الثلاثة، “As I Lay Dying” (بينما كنت أحتضر) للمخرجين الإيرانيين محمد رضا فرزاد وبيغا أهانغاراني، و”Intersecting Memory” (ذاكرة متقاطعة) للمخرجة الفلسطينية شيماء عواودة، و”happiness” (سعادة) للمخرج التركي فرات يوجيل، تشكل معاً لوحة مؤثرة عن دوافع الانتفاضة وتداعياتها.
يوجيل، في حديث للجزيرة نت، أكد أن فيلمه كان رد فعل طبيعي على الإبادة الجماعية في غزة، قائلاً: “لم أستطع أن أفعل شيئاً آخر. لا يمكننا أن نشيح بوجوهنا عن هذه المأساة، ولا أن نتجاهلها أو حتى نكتفي بالاحتجاج.” هذا التصريح يلخص الروح التي تسود المهرجان هذا العام، وهو رفض الصمت في وجه الأحداث المأساوية التي تشهدها مناطق مختلفة من العالم.
أسئلة ملحّة حول المقاومة
تطرح هذه الأفلام الافتتاحية أسئلة جوهرية حول طبيعة الاحتجاج، وما الذي يجعله يتحول إلى ثورة. هل يصبح الاحتجاج جزءاً من الهوية؟ وما هي العوامل التي تؤدي إلى لحظة الانتفاضة؟ وكيف يمكننا فهم وتأثير وتبعات هذه الحركات؟ هذه التساؤلات تهدف إلى إثارة النقاش وتشجيع المتفرجين على التفكير بعمق في القضايا المطروحة.
حضور عربي لافت: الجزيرة الوثائقية في الصدارة
يشهد مهرجان الأفلام الوثائقية هذا العام مشاركة عربية مميزة، تتصدرها الجزيرة الوثائقية بتقديم ثلاثة أفلام من إنتاجها المشترك. هذا التعاون يعكس استراتيجية القناة الرامية إلى تعزيز الحضور العربي في أهم المحافل السينمائية الدولية، وتقديم قصص واقعية من المنطقة للعالم.
- توأم غزة.. عودا إليّ: فيلم مؤثر أنتجته الجزيرة الإنجليزية، يروي قصة الأم الغزية رانيا التي اضطرت إلى ترك طفليها التوأم في مستشفى كمال عدوان خلال الحرب، ورحلة البحث عنهم بعد النزوح المتكرر.
- 32 متراً: فيلم تركي تشارك الجزيرة في إنتاجه، يروي قصة حليمة، المرأة الريفية التي تحدت الأعراف وقررت تنظيم مسابقة رماية للنساء.
- بين ضفّتين: فيلم يصور تجربة شابة جزائرية تعيش في برشلونة، تبحث عن جذورها وهويتها بعد سنوات من الغربة.
بالإضافة إلى هذه الأفلام، يلاحظ حضور شبكة الجزيرة وقنواتها التلفزيونية كمصدر إعداد رئيسي للعديد من الأفلام الأخرى، خاصة العربية والفلسطينية، وهو ما يؤكد دور الجزيرة في دعم صناعة السينما الوثائقية في المنطقة.
رؤية جديدة للمهرجان: أصوات الجنوب العالمي
تولي إيزابيل أراتي فيرنانديز، المديرة الفنية الجديدة للمهرجان، أهمية خاصة لأصوات الجنوب العالمي المهمشة، وتلك التي تسعى إلى تفكيك الهيمنة والاستعمار. وتؤكد فيرنانديز أن السينما الوثائقية ضرورة وجودية في عالم مضطرب، وأنها تساعدنا على الاستماع والرؤية والتخيل، والبقاء متصلين بالتعاطف والتعقيدات الإنسانية.
مسارات موضوعاتية تعكس قضايا العصر
ينظم المهرجان برنامجه حول عدة مسارات موضوعاتية تعكس القضايا الملحّة في عصرنا، مثل:
- صناعة التاريخ: أفلام توثق أحداثاً وتطورات حديثة أدت إلى تشكيل مستقبلنا.
- الديمقراطية: أفلام عن النضال من أجل حرية التعبير وحقوق الإنسان والمشاركة المدنية.
- إنهاء الاستعمار: أفلام تفحص الصراعات المتعلقة بالهوية والكرامة والحقوق التي تم إنكارها في ظل الحكم الإمبريالي.
قرار تاريخي: رفض اعتماد المؤسسات الإسرائيلية
في خطوة جريئة ومثيرة للجدل، أعلن مهرجان إدفا رفضه منح اعتماد لممثلي ثلاث مؤسسات إسرائيلية كبرى، وذلك انسجاماً مع مبادئه التي تمنع دعم المؤسسات المتورطة في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. هذا القرار جاء في وقت تتصاعد فيه الدعوات الدولية لمقاطعة المؤسسات الثقافية الإسرائيلية، تعبيراً عن رفض دعم حرب الإبادة في غزة.
ختاماً: إدفا منصة للتغيير
مهرجان إدفا هذا العام ليس مجرد عرض للأفلام الوثائقية، بل هو منصة للتغيير، وصوت للمقاومة، وشهادة على قوة السينما في مواجهة الظلم. من خلال الأفلام التي يقدمها، والأسئلة التي يطرحها، والرسائل التي يوصلها، يسعى المهرجان إلى إلهام المتفرجين وتشجيعهم على التفكير بعمق في القضايا التي تشكل عالمنا، والعمل من أجل مستقبل أفضل. هذا المهرجان هو أكثر من مجرد حدث سينمائي، إنه حوار مفتوح، ودعوة للتأمل، وصرخة في وجه الصمت العالمي.















