قبل أربع سنوات من قرار الرئيس السابق “دونالد ترامب” اتخاذ سيناتور ولاية أوهايو “جيه دي فانس” ليكون نائبا له، تحولت قصة حياة “فانس” إلى فيلم سينمائي مرشح لجائزتي أوسكار.

وقد صعد “فانس” إلى الصدارة، وصنع اسما لنفسه في يونيو/ حزيران 2016، حين نشر مذاكراته تحت عنوان “مرثية هيلبيلي.. قصة عائلتي ومجتمع في أزمة” (Hillbilly Elegy: A Memoir of a Family and Culture in Crisis).

وهي قصة عن الفقر الأبيض في أمريكا، يروي فيها طفولته المروعة في بلدة فقيرة في حزام الصدأ، في أمريكا المتخلفة التي تعاني من البطالة والعنف والكحول والمخدرات والبدانة.

مفاجأة “ترامب”.. لغز يمنح الكتاب بعض إجاباته

بعد بضعة أشهر، أصبح كتاب “مرثية هيلبيلي” من أكثر الكتب مبيعا ونقاشا، وبعد ذلك جاءت الانتخابات الرئاسية، وكان “دونالد ترامب” المرشح الرئاسي الجمهوري وقتها، وكانت أرقام استطلاعات الرأي جيدة بشكل مدهش.

كانت وسائل الإعلام في الولايات المتحدة تبحث عن تفسيرات لسبب التأييد القوي الذي ناله رجل الأعمال العقاري ونجم تلفزيون الواقع “ترامب”، بينما لا يزال يُطلق عليهم المجموعات السكانية المتخلفة عن الركب في الولايات الأمريكية غير الصناعية، أي حزام الصدأ. وبعد نجاح “ترامب” في انتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني 2016، تزايدت الحاجة إلى التفسير.

بفوز “ترامب”، أصبح يُنظر فجأة إلى قصة السيرة الذاتية “مرثية هيلبيلي” على أنها “تفسير” لأولئك الذين يبحثون عن تأويل لانتصار “ترامب” الرئاسي، ويحاولون فهم تجربة الأمريكيين البيض الفقراء. ووفقا لنيويورك تايمز، فقد بيعت من هذه المذكرات 1.6 مليون نسخة حتى الآن.

“مرثية هيلبيلي”.. قصة تخرج من الكتاب إلى السينما

تحول الكتاب إلى فيلم من إنتاج “نتفليكس” عام 2020، تحت عنوان “مرثية هيلبيلي” (Hillbilly Elegy)، بميزانية قدرها 45 مليون دولار، من بطولة “إيمي آدامز” في دور والدته المتقلبة والمضطربة والمدمنة “بيف”، و”غلين كلوز” في دور جدته “ماماو”، و”غابرييل باسو” في دور “فانس” و”فريدا بينتو” في دور حبيبته، وقد أخرجه “رون هوارد” الذي بدأ حياته المهنية ممثلا طفلا، ثم انتقل إلى إخراج الأفلام.

أصبح “هوارد” على مر السنين مخرجا قويا قادرا على تقديم الأفضل، مثل فيلم “أبولو 13” (Apollo 13) الذي أخرجه عام 1995، وفيلم “عقل جميل” (A Beautiful Mind) الذي أخرجه عام 2001، ومسلسل “ويلو” (Willow) الذي أُنتج عامي 2022-2023.

كما قدم الأسوأ أيضا مثل “شيفرة دافنشي” (The Da Vinci Code) الذي أخرجه عام 2006، وفيلم “شيفرة دافنشي” (Solo: A Star Wars Story) الذي أخرجه عام 2018.

وقد صاغت سيناريو الفيلم الكاتبة “فانيسا تايلور” التي كتبت عدة حلقات من مسلسل “صراع العروش” (Game of Thrones) ومسلسل “ألياس” (Alias).

ومع ترقية “جي دي فانس” المهنية الجديدة، بعد الإعلان أنه سيكون نائب الرئيس “دونالد ترامب” في الانتخابات الرئاسية عام 2024، سارع كثير من الناس إلى مشاهدة الفيلم المنسي، وسرعان ما قفز إلى صدارة الأفلام الأكثر مشاهدة على منصة نتفليكس، لرغبة الجمهور في التعرف على صاحب القصة عن قرب.

أساطير عن الطبقة العاملة يعاقبها النقاد

كان فيلم “مرثية هيلبيلي” فيلما مثيرا للانقسام حين عُرض في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، فانتقده النقاد بكل الطرق، ومنحوه نسبة 25% فقط على موقع “الطماطم الفاسدة” (Rotten Tomatoes) المتخصص في تقييمات الأفلام والمسلسلات، وحظي الفيلم بكمية هائلة من المشاهدات الكارهة.

تلقى الفيلم بعد ذلك ترشيحين لجوائز الأوسكار، عن فئة أفضل ممثلة مساعدة للممثلة “غلين كلوز”، وفئة أفضل مكياج، لكنه خرج خالي الوفاض في حفل توزيع الجوائز، وعاقب النقاد العمل بلا رحمة.

بداية، رأى بعض الناس أن “فانس” لا يزال أصغر من أن يكتب سيرته الذاتية، فكان ابن 33 عاما فقط، وأنه كتب قصته بصوت الواعظ الحكيم.

ورأى بعض النقاد في الولايات المتحدة أن القصة تبدو كأنها مثال بارز لقصة خيالية أمريكية مفترضة. وقال نقاد آخرون -من أبناء ريف “الأبالاش”- إن الفيلم مليء بالأكاذيب وقصص التلاعب المتعمد، وأن الفيلم -كما الكتاب- ليس أكثر من قائمة من الأساطير عن الطبقة العاملة البيضاء. وقالت مجلة “نيو ريبابليك”: حجة فانس الأساسية هي أن سكان التلال أنفسهم هم المسؤولون عن مشاكلهم.

وقال الصحفي “سيلاس هاوس” -وهو كاتب من الأبالاش- إنه ينظر إلى “مرثية هيلبيلي” على أنها “ليست مذكرات ولكنها أطروحة تتاجر في الصور النمطية والاستعارات القبيحة لسكان التلال”.

مصطلح هيلبيلي.. ازدراء وفخر لأبناء جبال الأبالاش

كلمة “هيلبيلي” (Hillbilly) هي مصطلح يستخدم في اللغة الإنجليزية الأمريكية، لوصف إنسن يعيش في منطقة ريفية أو جبلية، لا سيما في جبال الأبالاش في الولايات المتحدة، وغالبا ما يستخدم نمطيا للإشارة إلى أناس يتصور أنهم غير متعلمين أو بسطاء في طريقة حياتهم.

ولهذا المصطلح دلالات سلبية، فيُستخدم أحيانا بشكل ازدرائي، للإشارة إلى نقص التعليم أو الثقافة، ومع ذلك، فإنه في بعض الأحيان يُستخدم بشكل محبب أو بفخر من قبل المنتمين إلى تلك المناطق، ممن يرغبون في الاحتفاظ بتراثهم الثقافي.

من الجيش إلى الجامعة.. كفاح للخروج من “القمامة البيضاء”

يغوص الفيلم في قلب أمريكا، ويتحدث عن حياة البيض العاطلين عن العمل، العالقين في مدنهم المهجورة، بلا أحلام ولا مستقبل، الذين كانوا ذات يوم عمالا بالمُياومة في الولايات الجنوبية، أو عمال مناجم، أو عمالا غير ماهرين في كنتاكي أو في صناعة الصلب في أوهايو.

وقد فقدوا وظائفهم في أعقاب تراجع التصنيع الأمريكي، وإغلاق معظم المصانع في جاكسون بولاية كنتاكي، مما أدى إلى تفشي البطالة بينهم، لصالح التصنيع في الصين.

تتحرك الكاميرا لتُظهر المنازل المتهالكة والشاحنات الصدئة، والمحلات التجارية المغلقة في شارع التسوق الرئيسي في ولاية أوهايو. ويظهر رجال بلا قمصان، ورجال ذوو لحى بيضاء طويلة، تبدو عليهم مظاهر الفقر والعوز على جانب طريق ريفي.

ويظهر الفيلم ارتقاء “فانس” من منطقة لا مستقبل لها، من أمريكا المهمشة اجتماعيا التي يطلق عليها “القمامة البيضاء” إلى الطبقة العليا، بعد انضمامه إلى مشاة البحرية وعمله جنديا في العراق، ثم التحاقه بجامعة ولاية أوهايو وكلية الحقوق بجامعة “ييل” النخبوية، بفضل المال الذي حصل عليه من خدمته في الجيش، مما مكّنه من دفع الأقساط الأولى لدراسة الحقوق.

هجرة حزام الصدأ.. بحث عن تذكرة الصعود إلى الطبقة العليا

يحكي الفيلم قصة هجرتين، إحداها هجرة الفقراء البيض من ريف الأبالاش إلى مدن وبلدات حزام الصدأ، ومنهم أجداد المؤلف من جهة الأم. والأخرى هجرة “فانس” من ميدلتاون في أوهايو، إلى مناطق الطبقة الحاكمة، مثل نيو هيفن، ووادي السيليكون، وواشنطن العاصمة.

تبدأ أحداث الفيلم في عام 1997، ويظهر “فانس” صبيا يعاني من زيادة الوزن، في زيارة صيفية لمنطقة حزام الصدأ مع والدته وأخته وجدته، وهي في الأصل من منطقة “هيلبيلي” التي تحمل الاسم نفسه في ولاية كنتاكي.

ويتأرجح الفيلم بين الماضي والحاضر في عام 2011، بينما يوشك “فانس” على الالتحاق بمكتب محاماة كبير، أثناء دراسته للقانون بجامعة “ييل”، لكنه على وشك أن يفقد مكانه في الجامعة إذا لم ينل هذه الوظيفة، فلا سبيل لديه لدفع أقساط كليته، كما أن الوظيفة أيضا هي سبيله الوحيد للحصول على تذكرة صعود إلى الطبقة العليا، ولكنه يعلم أن والدته دخلت المستشفى للتو، نتيجة جرعة زائدة من الهيروين.

الأم المدمنة.. كاهل مثقل بتاريخ المآسي العائلية

يقود “فانس” سيارته عائدا إلى أوهايو في منتصف سباق التقديم للوظائف، ويتعين عليه تدبر إقامة لأمه المشردة، وذلك في نصف يوم تحت ضغط الوقت.

من هنا يكشف الفيلم عن الماضي، ويحكي معضلة الأسرة بأكملها عبر عدة أجيال، من مأساة الجدة وحملها في عامها الثالث عشر، وتكرر الأمر مع الأم وحملها في عامها السابع عشر، وكذلك مع الابنة، والتاريخ يكرر نفسه إلى الأبد.

لكن الأمر كان مختلفا لدى “فانس”، فهو أول عضو في العشيرة يخرج من واقع الطبقة الدنيا البيضاء، ولا يستطيع فعلا ذلك إلا عدد قليل من الناس، وهم الذين يؤمنون بتحقيق الحلم الأمريكي.

“أنا سعيد لوجودي هنا”.. نهايات هوليود المجيدة

بعد قيادة السيارة لمدة 10 ساعات ليلا، يعود “فانس” إلى مقابلة عمله متأنقا في بدلته، ويترك البؤس في أوهايو خلفه، بينما ترقد والدته في غرفة فندق، ثم يختتم الفيلم بعبارة “أنا سعيد لوجودي هنا”، على طراز هوليود المعتاد.

ويفتخر نص الفيلم الذي يظهر على الشاشة بأن والدة “فانس” أصبحت الآن امرأة صالحة، وأقلعت عن الإدمان منذ 7 سنوات، وأنها تعمل في تنظيف البيوت، وفي إمساك الدفاتر المحاسبية.

الآن وبعد أن أصبح “فانس” على مرمى البصر من ثاني أعلى منصب في البلاد، يتساءل كثيرون عن الدور الذي لعبته هوليود في تمكين صعوده.

بعد عرض الفيلم، أصبح “فانس” (39 عاما) عضوا جمهوريا في مجلس الشيوخ عن ولاية أوهايو، وانطلق في السياسة بنجاح مبهر، ومع أنه وصف “ترامب” بأنه “أحمق” و”بغيض”، وأنه “هتلر الأمريكي”، فإنه أظهر لاحقا دعمه له، وأصبح منذ ذلك الحين أفضل متحدث باسمه، بل إنه أصبح الآن نائبا له في انتخابات نوفمبر 2024.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.