اختتمت في محافظة تنومة، أمس الأول، ندوة «تعزيز الهوية من القرية للعالم»؛ التي نظّمها مركز عبدالله بن إدريس الثقافي، بالتعاون مع جمعية إرثنا في تنومة، واستمرت فعالياتها على مدى يومي الثلاثاء والأربعاء الماضيين، وشارك فيها نخبة من الأكاديميين والكُتّاب، ركزوا في أربع جلسات عمل، بواقع 12 ورقة عمل، تناولت مستجدات وتحديات تتجاذب الهويّات، في ظلّ التحولات المتسارعة، وتقارب العالم، وعبّرت النخبة عن قلقها على هويّات الشباب الرقمي من التسييل والمحو والإذابة.

وتناول رئيس جامعة الجوف سابقاً الدكتور إسماعيل البشري، تاريخ الهويّات البشرية، وتعامل الإسلام مع الهوية منذ وثيقة المدينة المنورّة، باعتبارها منطلق الاعتداد بالهويّة الإسلامية، واستيعابها كافة الهويّات، دون تصادم ولا إلغاء ولا ذوبان، وعدّها وثيقة حقوق إنسان. فيما استعرض أستاذ علم الاجتماع في جامعة الملك سعود، الدكتور خالد الرديعان، أثر مواقع التواصل الاجتماعي، وتأثير التقنية والرقمنة، في المفاهيم والهويّة، ولفت إلى حضور ما يُسمى بالهويّة الافتراضية، بظهور مجموعات يعرفون بعضهم بعضاً من خلال مواقع التواصل، وينشأ فيما بينهم سمات مشتركة، تشبه عناصر ومكونات الهوية، وعدّها هويّات سائلة ويمكن التحلل من التزاماتها والتخلي عنها عندما تغدو عبئاً على أصحابها.

وأكد أستاذ العلوم الإنسانية في جامعة البترول الدكتور مسفر القحطاني، أن سؤال الهوية من أهم الموضوعات المطروحة في مجتمعاتنا العربية خلال العقود الماضية، مشيراً إلى أن الواقع العربي منذ خروج الاستعمار العسكري لا يزال يبحث عن هويته في انتمائه الديني المتعدد، أو عرقه القومي المتنوع، أو بطاقة جنسيته الوطنية، لا باعتبارها هويات متكاملة، بل لكونها هويات متناقضة ومتشظية لا يمكن اجتماعها في مجتمع فضلاً عن فرد، لافتاً إلى اشتعال حروب هويّات في عدد من مجتمعاتنا العربية، لم تخمد نيرانها إلى اليوم، وعدّ بحث الهوية من أولويات النظر على كافة المستويات الأمنية والسياسية والدينية والثقافية والاجتماعية، كونه معقداً وشائكاً جدّاً، ومحمّلاً بإرث فكري وأطروحات مفخخة، كلها تدعي الحقيقة المطلقة في شأن الهوية الفردية والمجتمعية، ومعجونة بالدين والقيم والأعراف والأفكار حدّ تكاثر الهويات على الذات الواحدة؛ بسبب سعة الفضاءات وتعدد المجالات التي يعيشها الفرد المعاصر، فيمكن أن يتميز أي شخص بعدد من الهويات تجعله مختلفاً عن الآخر، منها على سبيل المثال: مواطن مسلم، وعربي، وسعودي، وشمالي أي من شمال السعودية، وشمري، وحائلي، ومعلم، ودرّاج، ويشجع نادي…، وحضري، وربما ترسم هويته في كل مكان وزمان يوجد فيه، وتمتد معه فترة من حياته وتتغير بذهاب بعضها وحلول صفات أخرى محلها لتعيد رسم الهوية في كل مرة، لافتاً إلى المواجهة بين الصفات والعلامات الفارقة للفرد أو المجتمع، بما تحمل معها من نزعة التفوق والتفاضل، ما يجعل المواجهة تتخذ الطابع النفسي والتحدي الاجتماعي لإثبات التميز والعلو على الآخر، ويراها حاضرة بقوة، بتوفر وسائل التعبير في مواقع التواصل الاجتماعي، والقدرة على التحشيد والتجييش بشكل أسهل في العالم الافتراضي. وعدّد المستشار الثقافي الدكتور فهد الثميري، مقوّمات الهوية الوطنية، ومنها العقيدة الإسلامية، واللغة العربية، والثقافة، والأسرة، والمدرسة. وركّز عضو مجلس الشورى سابقاً الدكتور فايز الشهري، على تجليّات الهويّة، ووحدة الوطن التي لا يختلف عليها اثنان، بخلاف الاجتهادات الفقهية، والآراء السياسيّة، التي يمكن أن تنقسم المجتمعات عليها، وتختلف حولها. وشارك أستاذ علم الاجتماع الدكتور عبدالسلام الوايل بورقة عن الهويّة بين الفرص والتحديات، لفت من خلالها إلى مكونات الشخصية السعودية عبر التاريخ، بدءاً من تكيّف الإنسان في الجزيرة العربية مع التحولات الطقسية والمناخية، من 6,000 آلاف عام، وابتكاره أدوات ونظماً منها نظام البداوة للتكيّف مع بيئته القاسية، وعدّ التكيّف والمرونة، من سمات الإنسان السعودي، الذي نجح في التعامل مع المتغيرات إضافةً إلى طبيعة التديّن وكانت مصدّرة ثقافات تلهمنا المقاربة مع تأثيرات سعودية اليوم على مختلف الصّعد.

وقدم الدكتور عبدالله المطيري أطروحة عن كيفية الموازنة بين الانفتاح على التعددية الثقافية والحفاظ على الهوية من خلال التأمل في حدث ثقافي وقع عام 1996م، إذ طبع النادي الأدبي بالرياض برئاسة عبدالله بن إدريس كتاب «ما بعد البنيوية» للدكتور ميجان الرويلي، كتب مقدمته «ابن إدريس» محتفياً ومرحباً. ويرى المطيري أنه رغم حساسية اللحظة ورمزية المؤسسة الرسمية للنادي الأدبي إلا أن ابن إدريس رحّب بكتاب الرويلي، معبراً عن قيمة انفتاح وثقة وضيافة جعلت من هذا الكتاب ممكناً، وعدّ رمزية الضيافة تعبيراً عن ذات قوية وفاعلة إلا أنها ليست مرتابة من الغريب والجديد بل تنطلق من ترحيب.

وأكد الدكتور عبدالرحمن الصامل، في ورقته، ضرورة المحافظة على هويات القُرى، وعدم الانتشاء بغزو «برندات المدن» وعدّ الدكتور عبدالعزيز الحرقان الآلة الاجتماعية في عالمنا المعاصر، قوة رقمية تعمل على إعادة هندسة حياتنا اليومية، ويمكن وصفها بـ«الآلة الاجتماعية»، ذات منظومة متكاملة من المستخدمين والمنصات والخوارزميات، التي تتغذى على البيانات لبناء مجتمعات افتراضية تتجاوز الحدود الجغرافية، وتفرض هذه الآلة تحديات عميقة على الهوية والثقافة والسيادة الفردية.

موضحاً أن أبرز التحديات تتمثّل في «الاستعمار الخوارزمي»، إذ إن الخوارزميات التي تدير تجاربنا الرقمية ليست محايدة، بل هي مصممة في بيئات ثقافية محددة، وغالباً ما تكون في وادي السيليكون، وتحمل معها قيم ومعايير بلد المنشأ. وبتطبيقها وتفعيلها تفرض منظومة قيمية ربما لا تتوافق مع المجتمعات المحلية، ما يخلق تبعية رقمية جديدة، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بـ «استعمار البيانات»، إذ يتم التعامل مع السلوك البشري باعتباره مادة خام، تُستخلص وتُحلل لتحقيق أرباحاً تجارية، مؤكداً أن التحديات التي تطرحها «الآلة الاجتماعية» ليست مؤقتة، بل سمة أساسية للعصر الرقمي. فيما يزداد الاندماج بين الواقعي والافتراضي بتطور تقنيات المستقبل كالميتافيرس، وتتعاظم هذه المخاطر.

وتناول الدكتور حسن النعمي الهويّة المتغيرة في علاقتها مع الواقع، واختار رواية عبدالعزيز مشري «الوسمية»، التي تناولت قلق القرية من تغوّل المدينة.

من جهته، أوضح رئيس مركز ابن إدريس الثقافي، الدكتور زياد الدريس أن الهوية ليست شيئاً واحداً أو كتلة واحدة، كون الإنسان يحمل هويات متعددة، صغرى وكبرى، ثابتة ومتحولة، صلبة وسائلة، مؤكداً أنه لا ينبغي للهويات الصغرى أن تعلو فوق الهويات الكبرى، إلا في حالات استثنائية ينبغي أن تكون مؤقتة، وإلا عُدّ هذا خللاً في الانتماء الهوياتي، موضحاً أنه تمت مناقشة تحولات الهوية مع الإنسان في انتقاله من القرية إلى العالم، أكان انتقالاً حسياً جسدياً أو معنوياً افتراضياً؟ وعدّ أوراق العمل حارثة في الجذور، لمواجهة التحديات، وتقاسم الحصص مع الانفتاح، واستشراف المستقبل من دون أن نستعيب ماضينا، كون الهوية عجينة من الماضي والحاضر والمستقبل.

أخبار ذات صلة

 

شاركها.
اترك تعليقاً