مع تسارع الإيقاعات وطغيان الحداثة على التفاصيل الصغيرة للحياة، يظهر فيلم “نوناس” (Nonnas) أو”الجدات” حالة سينمائية استثنائية تنحاز للتأمل. ويقدم هذا العمل وصفة سينمائية بسيطة لكنها مشبعة، تستحضر الحنين وتستند إلى قصص واقعية.

إنه عمل بسيط لكن كاف، هكذا يمكن وصف “نوناس” الذي طرح عبر منصة نتفليكس مؤخرا، وأعاد إلى أذهان مشاهديه أجواء أفلام الثمانينيات والتسعينيات المرحة الخفيفة، حيث نوعية الأفلام التي تشكل خيارا سهلا للعائلات ويمكن مشاهدتها أكثر من مرة، أفلام لا تهتم بالتقنيات والمظاهر البراقة بقدر ما تركز على العلاقات التي تشكل وجدان المشاهدين.

 

رحلة إنسانية عبر المطبخ والذاكرة

من منا لم يختبر الفقد وينهشه وجع رحيل الأحباء؟ تماما مثل جو/فينس فون الذي نشأ في أسرة إيطالية أميركية وفقد والدته لتوه وسبقه رحيل جدته، الأمر الذي يضعه تحت وطأة حالة نفسية متردية ويشعره بالضياع والوحدة، ويضطره للتساؤل كيف عساه أن يخرج من هذا الحزن العميق؟

وبسبب شغفهما الدائم بالطبخ، مما جعله يمثل إحدى ركائز علاقتهم الأسرية، حيث الحب الأصيل والأكل النابع من القلب، يقرر المخاطرة بمدخراته ويفتح مطعما صغيرا يعتمد بالأساس على وصفات الجدات، على أمل إعادة إحياء الشعور بالارتياح والمحبة الذي طالما اعتراه عبر الوجبات التي تربى عليها.

وفي سبيل ذلك، ينشر إعلانا لتعيين جدات حقيقيات أو نساء كبيرات بالعمر يعرفن كيف يحضرن الطعام بمزيج متساو من الحب والملح، ويحترفن طهي الوصفات التقليدية التي يستحضرن بها الأسلاف، ليصبح الطعام مثل إرث ثمين، في حين تنشأ بينهم علاقة سرعان ما تصبح العمود الفقري لذاك المشروع الشخصي جدا ويجمعهم كافة الحب والفقدان ورحلة التعافي المشتركة.

الطهي شهادة على الحياة

بحساسية مرهفة يسلط “نوناس” الضوء على علاقة الرجل بأمه وما بها من هشاشة مفرطة، تلك العلاقة التي لم يجر تناولها بوفرة في الحبكات من قبل، كذلك يؤكد ضرورة التمسك بالتقاليد سواء كانت إرثا ثقافيا أو حتى طعاما.

ورغم أن العمل لم يصل إلى مستوى أفلام الطبخ ذات المستوى الرفيع مثل “تشوكليت” و”جولي وجوليا” و”طعم الأشياء” التي جاءت غنية بالتفاصيل الثرية شديدة الدقة في ما يخص تحضير الوصفات، لكنه حافظ على القدر الأدنى من الحميمية.

خاصة وأنه مستوحى من قصة حقيقية وتحديدا حياة جودي سكارافيلا التي افتتحت مطعم إينوتيكا ماريا في جزيرة ستاتن عام 2007 بعد وفاة والدتها، معتمدة على مجموعة من الجدات غالبيتهن من إيطاليا لطهي أطباق موروثة، وسرعان ما جذب المطعم النقاد والزبائن، ومع الوقت أضيف إليهن جدات أخريات من فرنسا والإكوادور وبنغلاديش وسوريا، ولا يزال المطعم حتى الآن مقصد الزبائن من كل صوب بعد مرور ما يقارب عقدين.

عن الجدات والطعام والكثير من الذكريات

“نوناس” ربما لا يكون فيلما عظيما أو يسعى للابتكار، لكنه عمل عاطفي صمم خصيصا للمشاهدة العائلية الطيبة حيث الحكايات التي تذكرنا بأننا نشفى عبر التواصل مع ماضينا الدفين ومع بعضنا البعض وأن الجميع على اختلاف الأعمار يحق له السعي خلف سعادته عوضا عن الاستسلام للتقدم بالعمر.

والأهم أنه من الأعمال الجيدة التي أعادت النساء فوق الستين إلى أدوار البطولة دون أن تنتقص منهن أو تجبرهن على الابتذال من أجل الكوميديا كحال الكثير من الأفلام الخفيفة التي أنتجت بالقرن الحالي، وإن كان من الأفضل لو أثقلت خطوطهن الدرامية أكثر ومنحت بعض العمق الإنساني لمزيد من التعلق بهن.

ومن بين عيوب العمل الفنية الأخرى مخاطبته الجمهور من الكبار، إذ سيجده الأصغر سنا مملا وغير مضحك رغم تصنيفه عملا كوميديا، حتى فينس فون المعروف بأدائه الساخر لا يضع طاقته الكوميدية بهذا العمل، وإنما يظهر أداءه جامدا بعض الشيء، وإن كان يحسب إليه خروجه على منطقته الآمنة وخوضه تجربة جديدة بهذه السن.

يُذكر أن البطء الذي اتسم به العمل كان مقصودا وموظفا لإيجاد حالة تشبه طقوس الطهي الحقيقية وما بها من تأن. أما السرد فقد جاء متوقعا، في غياب واضح لعملية تحويل المطعم من أطلال وأنقاض إلى مكان فاخر وهو ما قد يرغب الجمهور بمشاهدته، وتحول سريع بما آل عليه المطعم من انتقال من الركود التام إلى النجاح البارز، وهو ما كان يجدر أن يأتي تدريجيا لمزيج من الواقعية.

ولكن ما وازن الأمر مشاهد الطبخ بتفاصيلها البسيطة والمشادات بين الجدات وحديثهن عن أنفسهن وعن الوصفات، مع التحول الذي جرى للشخصيات واحدة تلو الأخرى وصولا للحظة الذروة.

ومن أبرز نقاط القوة في الفيلم الاختيارات اللونية الدافئة والموسيقى الإيطالية الكلاسيكية التي صاحبت المشاهد، إذ خلفوا حالة من الحميمية، بجانب الأداء المتوازن من النجمات السيدات. كذلك أحسن المخرج ستيفن شبوسكي استغلال الإضاءة الطبيعية بشكل متعمد ليضفي حسا منزليا على المكان، متجنبا البهرجة البصرية المعتادة في الكوميديا.

طعام جيد.. سينما متوسطة

“نوناس” عائلي عن تكريم الكبار والاحتفاء بالماضي وأثره الممتد للحاضر والمستقبل، فيلم عن أهمية الجذور والرجوع إلى الأصل ليبقى الفرع عاليا وقويا. لكن هل تكفي ملعقة من الذكريات لصنع وجبة سينمائية مشبعة أم أن الحنين وحده لا يصنع فيلما خالدا؟

يُذكر أن الفيلم بطولة فينس فون، سوزان ساراندون، بريندا فاكارو، ليندا كارديليني، تاليا شاير، جو مانغانيلو، لورين براكيو، دريا دي ماتيو. وإخراج الكاتب الأميركي ستيفن شبوسكي الشهير بحسه الإنساني العاطفي وقدرته على تصوير التحولات النفسية لدى الشخصيات لا سيما المراهقين والشباب.

شاركها.
اترك تعليقاً