إستراتيجية الأمن القومي الأمريكية 2025: تحول جذري في الأولويات ونهاية حقبة العولمة التقليدية

أعلنت الولايات المتحدة مؤخرًا عن وثيقة إستراتيجية الأمن القومي الأمريكية 2025، والتي تمثل نقطة تحول فارقة في السياسة الخارجية والاقتصادية الأمريكية. هذه الوثيقة، الصادرة في 5 ديسمبر/كانون الأول، ليست مجرد تقييم للتهديدات والتحديات، بل هي إعلان صريح عن نهاية مرحلة من الهيمنة الأمريكية للعالم كما عرفناه بعد الحرب الباردة، وتحول نحو التركيز على المصالح الاقتصادية الداخلية. تعكس الوثيقة قناعة راسخة بأن العولمة بشروطها السابقة لم تعد تخدم الاقتصاد الأمريكي، وأن الاستمرار في الالتزامات الأمنية الواسعة أصبح غير مستدام في ظل التغيرات العالمية المتسارعة.

الاقتصاد أولاً: عودة الدولة الوطنية الأمريكية

تعتمد الإستراتيجية الجديدة على مبدأ أساسي وهو “القوة الأمريكية تبدأ من الداخل”. هذا ليس مجرد شعار سياسي، بل هو رؤية اقتصادية متجذرة في أرقام وإحصائيات واقعية. فبعد سنوات من التباطؤ، عاد النمو المحلي الإجمالي للولايات المتحدة إلى مستوى 2.3% على الرغم من الركود الاقتصادي العالمي. كما شهدت الاستثمارات الصناعية داخل الولايات المتحدة ارتفاعًا ملحوظًا، حيث وصلت إلى 78 مليار دولار في عام 2024، وذلك ضمن برامج تهدف إلى إعادة توطين الصناعات الأمريكية.

بالإضافة إلى ذلك، تم ضخ أكثر من 130 مليار دولار في القطاعات التكنولوجية المتقدمة، مما ساهم في تقليل العجز التجاري غير النفطي بنسبة 11%. هذه المؤشرات الاقتصادية الإيجابية هي التي دفعت الإدارة الأمريكية إلى إعادة تقييم أولوياتها وتبني سياسة تركز على تعزيز الاقتصاد الداخلي وتقليل الاعتماد على سلاسل التوريد العالمية.

الشرق الأوسط في مرمى التحولات: من الالتزام إلى الشراكة

لطالما كان الشرق الأوسط مركزًا رئيسيًا للسياسة الأمريكية على مدى الخمسين عامًا الماضية، وذلك بسبب الأهمية الاستراتيجية للنفط والصراع على النفوذ في المنطقة. لكن وثيقة إستراتيجية الأمن القومي الأمريكية 2025 تشير بوضوح إلى أن هذه الديناميكيات قد تغيرت بشكل جذري.

فالولايات المتحدة أصبحت اليوم منتجًا رئيسيًا للنفط، حيث تنتج حوالي 12.9 مليون برميل يوميًا وتقترب من تحقيق الاكتفاء الذاتي. وفي الوقت نفسه، يتجه الطلب العالمي على النفط نحو آسيا، التي تستورد الآن حوالي 70% من نفط الخليج.

نتيجة لذلك، لم يعد لدى الولايات المتحدة دافع اقتصادي قوي للحفاظ على نفس المستوى من التدخل والالتزام في منطقة الشرق الأوسط. تصف الوثيقة المنطقة بأنها “منطقة شراكة لا منطقة التزام عسكري طويل الأمد”، مما يعني أن واشنطن ستركز على التعاون مع الدول التي تقدم قيمة اقتصادية أو استراتيجية ملموسة، بدلاً من التدخل في شؤونها الداخلية أو حماية أنظمتها الحاكمة. هذا التحول يعني أن التزامات واشنطن التقليدية، مثل حماية أمن إسرائيل أو ضمان أمن الممرات المائية، ستصبح “خطوطًا حمراء” تُدار بمرونة وبأقل تكلفة ممكنة.

أوروبا تدفع الثمن: نهاية “المظلة الأمريكية”

تعتبر أوروبا من بين أكبر الخاسرين في هذه الإستراتيجية الجديدة. فبعد عقود من الاستفادة من “المظلة الأمريكية” للأمن والحماية، تجد أوروبا نفسها الآن خارج نطاق الحسابات الجديدة لواشنطن.

تؤكد الوثيقة أن مرحلة “الدعم الأمريكي المفتوح” قد انتهت، وأن على أوروبا أن تتحمل المزيد من المسؤولية عن أمنها واقتصادها. وتطالب أوروبا برفع الإنفاق الدفاعي إلى 2.5% من الناتج المحلي الإجمالي، وتغيير سياسات الهجرة التي كلفت اقتصاداتها أكثر من 340 مليار دولار منذ عام 2015، وإعادة بناء صناعاتها بعد فقدان الغاز الروسي الرخيص.

بهذه المقاربة، تنتقل أوروبا من كونها “شريكًا محميًا” إلى “شريك يجب أن يتحمل التكلفة”، وهو تحول اقتصادي كبير سيغير بنية التحالف الأطلسي في السنوات القادمة.

آسيا مركز الثقل الجديد: فرص وتحديات

ترى وثيقة إستراتيجية الأمن القومي الأمريكية 2025 أن مستقبل الاقتصاد العالمي يكمن في آسيا، التي تساهم حاليًا بأكثر من 55% من النمو العالمي وتستحوذ على 70% من الاستثمارات التكنولوجية المتقدمة.

لذلك، تضع واشنطن اليابان وكوريا الجنوبية في مقدمة حلفائها الاستراتيجيين في المنطقة، نظرًا لقدرتهما على استيعاب الاستثمارات الأمريكية وتطوير الصناعات التكنولوجية المشتركة ومواجهة التفوق التصنيعي الصيني.

في المقابل، تعتبر الهند من بين الدول التي قد تخسر من هذه الإستراتيجية الجديدة، لأنها تعتمد بشكل كبير على منظومة العولمة القديمة التي تتجه واشنطن إلى التخلي عنها تدريجيًا.

الصين وروسيا: منافسة اقتصادية وليست مواجهة عسكرية

من أبرز النقاط التي وردت في الوثيقة هو الاعتراف بأن الصراع مع الصين هو صراع تكنولوجي وصناعي في المقام الأول، وليس صراعًا جغرافيًا أو عسكريًا.

وتعكس هذه الحقيقة الاقتصادية قوة الصين المتنامية، حيث تمتلك 31% من الإنتاج الصناعي العالمي وتسيطر على 42% من سلاسل الإمداد المتقدمة. كما أن استثماراتها في مجال الذكاء الاصطناعي تجاوزت 70 مليار دولار في العام الماضي.

أما روسيا، فهي تعتبر المستفيد الأكبر من تراجع الالتزام الأمريكي تجاه أوروبا، حيث تحصل على مساحة أكبر للمناورة الاقتصادية والجيوسياسية.

خلاصة: نحو عالم ما بعد العولمة

تعتبر إستراتيجية الأمن القومي الأمريكية 2025 وثيقة اقتصادية بامتياز، فهي تعلن بوضوح عن نهاية حقبة العولمة بشروطها السابقة، وتضع الاقتصاد الوطني في صدارة الأولويات، وتسعى إلى تقليص الالتزامات العسكرية، وتعترف بصعود آسيا كمحور جديد للنمو والاستثمار.

كما أنها تعتمد على تحالفات تقاس بالمنافع الاقتصادية المتبادلة، وليس بالقيم السياسية المشتركة. أما منطقة الشرق الأوسط، فهي تواجه واقعًا جديدًا، حيث لن تعود الولايات المتحدة إلى نمط التدخل السابق، وسوف يقتصر دورها على التعاون مع الدول التي تقدم قيمة اقتصادية أو استراتيجية ملموسة.

تعكس هذه الوثيقة تحولًا تاريخيًا سيعيد رسم خرائط النفوذ الاقتصادي العالمي خلال العقد القادم، ويجبر جميع دول المنطقة على إعادة بناء سياساتها الاقتصادية وفقًا لمنطق المصلحة الوطنية والقدرة على خلق شراكات استراتيجية حقيقية. إن فهم هذه التحولات أمر بالغ الأهمية لصناع القرار والخبراء والمحللين على حد سواء، من أجل التكيف مع الواقع الجديد والاستعداد للمستقبل.

شاركها.
اترك تعليقاً

Exit mobile version