في ظل تحقيقها فائضًا تجاريًا قياسيًا، يواجه الاقتصاد الصيني ضغوطًا متزايدة لإجراء إصلاحات هيكلية عميقة. هذا المقال يتناول دعوة صندوق النقد الدولي لبكين، والتحديات التي تواجهها، والمسارات المحتملة للنمو المستدام. يركز التحليل على أهمية التحول نحو نموذج اقتصادي يعتمد على الاستهلاك المحلي بدلاً من التصدير والاستثمار القائم على الديون، مع تسليط الضوء على المخاطر المرتبطة بالوضع الراهن. الاقتصاد الصيني يمر بمرحلة حرجة تتطلب قرارات استراتيجية حاسمة.
دعوة صندوق النقد الدولي لإصلاحات هيكلية في الاقتصاد الصيني
وجه صندوق النقد الدولي دعوة صريحة إلى الصين لتبني إصلاحات هيكلية أعمق وأسرع، وذلك بعدما ازدادت الضغوط الدولية على ثاني أكبر اقتصاد في العالم. يأتي هذا في وقت حققت فيه الصين فائضًا تجاريًا غير مسبوق بلغ تريليون دولار، مما أثار تساؤلات حول استدامة نموذج النمو القائم على التصدير، خاصةً مع تصاعد التوترات التجارية مع الشركاء الرئيسيين.
الصندوق يرى أن الاعتماد المفرط على “النمو المدفوع بالصادرات والاستثمار القائم على الديون” يشكل خطرًا على الاستقرار الاقتصادي طويل الأجل. بدلاً من ذلك، يدعو إلى التحول نحو “نمو يقوده الاستهلاك المحلي” كبديل أكثر توازناً واستدامة. على الرغم من إشادة الصندوق بـ “المرونة الملحوظة” التي أظهرها الاقتصاد الصيني في مواجهة الصدمات المتعددة، إلا أنه حذر من أن هذه المرونة لن تدوم ما لم يتم إجراء تغيير جذري في النموذج الاقتصادي.
الفائض التجاري وتأثيره على الأسواق الناشئة
أثار الفائض التجاري القياسي للصين انتقادات دولية متزايدة، حيث يتهمها البعض بـ “إغراق الأسواق الناشئة بالسلع الرخيصة”. هذه الاتهامات تعود إلى فترة ما قبل الرسوم الجمركية التي فرضها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على الصادرات الصينية، لكنها لا تزال قائمة حتى اليوم.
الضغط على الصين لتقليل هذا الفائض يأتي من رغبة دول أخرى في حماية صناعاتها المحلية وتعزيز التنافسية العادلة. كما أن الاعتماد الكبير على التصدير يجعل الاقتصاد الصيني عرضة للصدمات الخارجية وتقلبات الطلب العالمي.
توقعات النمو والتحذيرات المصاحبة
على الرغم من هذه التحذيرات، رفع صندوق النقد الدولي توقعاته لنمو الاقتصاد الصيني إلى 5.0% في عام 2025، مقارنة بـ 4.8% سابقًا، ويتوقع نموًا بنسبة 4.5% في عام 2026. إلا أن هذه التوقعات الإيجابية لم تخلُ من تحذيرات بشأن التحديات الهيكلية التي تواجه الصين.
أبرز هذه التحديات:
- ضعف الطلب المحلي: يعتبر تعزيز الاستهلاك المحلي أمرًا بالغ الأهمية لتحقيق نمو مستدام.
- أزمة العقارات: تظل أزمة العقارات تشكل تهديدًا كبيرًا للاستقرار المالي.
- مديونية الحكومات المحلية: ارتفاع مستويات الديون الحكومية المحلية يحد من قدرة هذه الحكومات على الاستثمار وتحفيز النمو.
تشير تقديرات الصندوق إلى أن حل أزمة العقارات قد يتطلب إنفاق ما يعادل 5% من الناتج المحلي الإجمالي على مدى ثلاث سنوات، خاصة وأن حوالي 70% من ثروة الأسر الصينية محتجزة في العقارات.
الإصلاحات الهيكلية المقترحة لتحقيق نمو مستدام
يرى صندوق النقد الدولي أن معالجة أزمة العقارات يجب أن تتضمن “خروج الشركات غير القابلة للاستمرار”، والتي يصفها بـ “الشركات الزومبي”. هذه الشركات، التي تعتمد على الدعم الحكومي للبقاء على قيد الحياة، تعيق تخصيص الموارد بكفاءة وتعيق النمو.
بالإضافة إلى ذلك، أوصى الصندوق بإصلاح نظام “هوكو” (بطاقات الإقامة الداخلية)، الذي يقيّد تنقّل المواطنين وحقوقهم الاجتماعية. إن تسريع الإصلاح في هذا النظام قد “يرفع الاستهلاك حتى 3 نقاط مئوية من الناتج المحلي”.
السياسات الرئيسية لتحفيز الاستهلاك المحلي
يؤكد صندوق النقد الدولي على أهمية تطبيق ثلاث سياسات رئيسية:
- خفض الإنفاق الصناعي الحكومي المفرط: يجب على الحكومة تقليل تدخلها في الاقتصاد وتشجيع المنافسة.
- تعزيز دور القطاع الخاص: القطاع الخاص هو محرك رئيسي للابتكار والنمو.
- زيادة مخصصات الحماية الاجتماعية: توفير شبكة أمان اجتماعي قوية يمنح الأسر الثقة في الإنفاق بدلاً من الادخار القسري.
هذه السياسات تهدف إلى زيادة الدخل المتاح للأسر وتحفيزها على الإنفاق، مما يعزز الطلب المحلي ويقلل من الاعتماد على التصدير. الاستثمار في القطاع الخاص يعتبر عنصراً أساسياً في هذه الرؤية.
التوازن بين الضغوط الخارجية والضرورات الداخلية
تتعامل الصين بحذر شديد مع تقييمات صندوق النقد الدولي، حيث تنظر إلى موقف المؤسسة الدولية على أنه مؤشر مهم على صورتها الاقتصادية عالميًا. ويرى الصندوق أن الصين “كبيرة جدًا على أن تولد نموًا إضافيًا من التصدير وحده”، محذرًا من أن الاعتماد على هذا المسار يعرضها لخطر فرض قيود تجارية من قبل شركائها.
في المقابل، فإن التحول إلى اقتصاد موجه نحو الاستهلاك يمنح الصين استقرارًا ماليًا أطول أمدًا، وحجم سوق داخلي قادرًا على امتصاص الإنتاج، وتوازنًا تجاريًا أقل استفزازًا على الصعيد الدولي. هذا التحول يتطلب تنمية الاستهلاك كأولوية قصوى.
يبدو أن النقاش في بكين لم يعد حول جدوى الإصلاحات، بل حول سرعتها وجرأتها. فالمكاسب قصيرة الأجل الناتجة عن الفائض التجاري الضخم قد تخفي وراءها هشاشة في الطلب الداخلي وأعباء ديون ثقيلة. الآن، يتعلق الأمر باتخاذ قرارات صعبة تضمن مستقبلًا اقتصاديًا مستدامًا للصين.















