في ذروة التصعيد التجاري بين واشنطن وبكين خلال شهر أبريل الماضي، ومع تبادل الرسوم والقيود، بدا للبعض أن الصين في موقف ضعيف. هذا ما صرح به وزير الخزانة الأمريكي سكوت بيسنت، واصفًا الوضع بأن الصين “تلعب بورقتين من فئة الاثنين”. لكن الأحداث التي تلت ذلك أظهرت أن هذا التقييم كان خاطئًا، وأن الصين تمتلك أوراق قوة لم تكن واضحة من قبل.
اتفاق “انتصار ضخم” أم تنازل أمريكي؟
بعد سلسلة من الرسوم الجمركية الأمريكية المتصاعدة – بدأت بـ 10% ثم 20% ووصلت إلى 145% قبل أن تعود إلى 10% – أعلنت إدارة الرئيس ترامب في أواخر أكتوبر التوصل إلى اتفاق وصفته بأنه “انتصار ضخم”. ومع ذلك، يشير تقرير صادر عن بلومبيرغ إلى أن هذا الاتفاق أعاد الأمور إلى ما كانت عليه في الأساس، بل وتضمن تنازلًا أمريكيًا هامًا.
هذا التنازل يتمثل في التراجع عن توسيع قائمة الشركات الصينية الخاضعة لضوابط التصدير، وهي أداة كانت تعتبر سابقًا غير قابلة للتفاوض. لم تكتفِ الصين بامتصاص الصدمات، بل خرجت من هذه المواجهة وهي أكثر قوة ووضوحًا في قدراتها. ترى ليزي سي لي، الباحثة في معهد سياسة جمعية آسيا، أن الصين “لم تعد مجرد متابع سريع، بل أصبحت نموذجًا مختلفًا للتنمية قد يكون أكثر قابلية للاستمرار، وربما أكثر واقعية”.
نقاط قوة الصين المتزايدة
لطالما ساد الاعتقاد بأن النمو الصيني السريع يحمل في طياته نقاط ضعف هيكلية، وهو ما عززه توقعات متكررة بانهيار وشيك. لكن بلومبيرغ تؤكد أن هذا الرأي أصبح “مجهدًا” في ظل الأداء القوي الذي تحققه الصين على جبهات متعددة.
الهيمنة على المعادن النادرة
أبرز هذه الجبهات هي السيطرة شبه الكاملة لـ الصين على سلاسل توريد المعادن النادرة. هذه المواد ضرورية لصناعة المغناطيسات القوية، وشاشات الهواتف، والإشارات الرقمية، ومئات التطبيقات الصناعية والعسكرية. القيود التي تفرضها بكين على تصدير هذه المعادن تهدد قطاعات أمريكية حيوية، مثل السيارات الكهربائية، والأقمار الصناعية، والطيران، والإلكترونيات الاستهلاكية. ويؤكد دانيال روزن، الشريك المؤسس لمجموعة “روديوم”، أن بناء قدرات محلية أمريكية في هذا المجال “سيستغرق سنوات لمعالجة الاعتماد المفرط الحالي على الصين”.
الاعتماد الدوائي
بالإضافة إلى ذلك، تعتمد الولايات المتحدة على الصين في مكونات ما يقرب من 700 دواء. هذه الحساسية لم يتم التطرق إليها حتى في المفاوضات التجارية الأخيرة. وفي أكتوبر، أوقفت الصين صادرات رقائق حاسوبية تنتجها شركة “نيكسبيريا” المملوكة لها، مما أدى إلى تباطؤ إنتاج شركات سيارات يابانية كبرى، وهو دليل إضافي على قدرة بكين على إحداث اضطرابات واسعة النطاق.
سباق التكنولوجيا والطاقة النظيفة
في المقابل، تمتلك أمريكا بعض نقاط الضغط، وعلى رأسها هيمنتها على الرقائق المتقدمة المستخدمة في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي. وقد حظر ترامب على شركة “إنفيديا” بيع أحدث رقائقها (“بلاكويل”) إلى الصين.
لكن هونغبين لي، المشارك في إدارة مركز ستانفورد لاقتصاد الصين، يرى أن بكين لا تزال في موقع أفضل، قائلاً: “هل يمكننا الاستغناء عن الأدوية أو المعادن النادرة؟ لا. هل يمكن للصينيين الاستغناء عن رقائق إنفيديا؟ نعم، يمكنهم”.
تجد الشركات الصينية طرقًا للالتفاف على القيود، سواء من خلال شبكات التهريب أو الشركات الوكيلة. كما أن شركات مثل “هواوي” تعمل على تطوير رقائق محلية، وإن كانت أقل تطورًا، إلا أنها كافية لإنتاج منتجات تنافسية.
وفي مجال الطاقة النظيفة، تتفوق الصين بشكل ملحوظ. فهي تبني طاقة شمسية تعادل ضعف ما تبنيه أمريكا وأوروبا مجتمعتين، وتنتج 70% من السيارات الكهربائية عالميًا، وتتصدر تقنيات البطاريات. وقد عرضت شركة “بي واي دي” في معرض شنغهاي للسيارات بطارية يمكن شحنها “تقريبًا بالكامل خلال 5 دقائق”.
في عام 2024، ركبت الصين عددًا من الروبوتات الصناعية يفوق ما ركبه بقية العالم مجتمعا. كما تهيمن شركة “دي جي آي” على 70% من سوق الطائرات المسيّرة التجارية، مع تفوق واضح في التطبيقات العسكرية مقارنة بالولايات المتحدة.
مستقبل المنافسة: لا أوهام بالانهيار
على الرغم من هذا التقدم، تواجه الصين تحديات كبيرة، مثل أزمة العقارات، والضغوط الانكماشية، والشيخوخة السكانية. كما تحذر التقارير من خطر الوقوع في “فخ الدخل المتوسط”، وهو ما تسعى الخطة الخمسية الجديدة للحزب الشيوعي الصيني لتجاوزه من خلال التركيز على “صناعات المستقبل”، مثل الفضاء والحوسبة الكمية.
لكن الخلاصة التي يخلص إليها تقرير بلومبيرغ هي أن الرهان على إضعاف الصين أو انتظار انهيارها لم يعد واقعيًا. الصين “خصم قوي ومصمم على توسيع مزاياها”، بينما تبدو الرغبة الأمريكية في “هزيمتها” أقل توافقًا مع الواقع العالمي المتغير.
إن إعادة تقييم موقع الصين في النظام الدولي باتت ضرورة ملحة، “ليس إعجابًا بنموذجها، بل لأن المراهنة على سقوطها ببساطة لن تنجح”. فهم هذه الديناميكية المتغيرة أمر بالغ الأهمية لصناع السياسات والشركات على حد سواء، ويتطلب استراتيجيات جديدة تعترف بقوة ومرونة الاقتصاد الصيني. الاستمرار في تجاهل هذه الحقائق قد يؤدي إلى قرارات خاطئة وعواقب وخيمة.


