في غينيا، وبينما تتناقل الأنباء عن انطلاق مشروع “سيماندو” الضخم لاستخراج خام الحديد، يعيش آلاف العمال وساكنو المناطق المحيطة واقعًا مريرًا يتمثل في فقدان سبل العيش وتنامي المخاوف الاجتماعية. هذا التناقض الصارخ بين الوعود الاقتصادية الزاهية والظروف المعيشية القاسية يطرح تساؤلات جوهرية حول المستفيد الحقيقي من هذه الثروة الطبيعية الهائلة. المشروع، الذي يُعد أكبر احتياطي غير مستغل لخام الحديد في العالم، كان من المفترض أن يكون نقطة تحول في تاريخ غينيا الاقتصادي والاجتماعي.
مشروع “سيماندو”: حلم النهضة الاقتصادية وثمن باهظ
أطلقت الحكومة العسكرية في غينيا مشروع “سيماندو” في نوفمبر الماضي، معلنةً إياه بداية عهد جديد من “النهضة الاقتصادية”. هذا الإعلان جاء قبل انتخابات ديسمبر الجاري، والتي تعتبر الأولى منذ انقلاب 2021. حرص الرئيس الانتقالي مامادي دومبويا على المشاركة في مراسم التدشين بزيّ تقليدي، ما يعكس أهمية المشروع رمزياً وسياسياً للنظام الحاكم.
يتوقع أن ينتج المشروع حوالي 120 مليون طن من خام الحديد سنويًا، وهو ما يمثل حوالي 7% من الطلب العالمي. هذا الإنتاج الضخم يثير الآمال في تحقيق نمو اقتصادي كبير، حيث تشير التوقعات إلى ارتفاع الناتج المحلي الإجمالي بغينيا بنسبة 26% بحلول عام 2030. ولكن، هل ستنعكس هذه الأرقام إيجابًا على حياة الغينيين البسطاء؟
التسريح المفاجئ للعمال: أزمة اجتماعية تتفاقم
مع بدء مرحلة التشغيل الفعلي للمشروع، بدأت تظهر معالم أزمة اجتماعية حادة. فخلال عامي 2024 و2025، بلغ عدد العاملين في “سيماندو” أكثر من 60 ألف شخص، معظمهم من الغينيين الذين وجدوا فيه فرصة للعمل وتحسين أوضاعهم المعيشية. لكن هذه الأعداد بدأت في التناقص بشكل كبير، حيث تشير التقديرات إلى أن مرحلة التشغيل لا تتطلب سوى 15 ألف عامل.
هذا يعني أن عشرات الآلاف من العمال قد فقدوا وظائفهم في فترة وجيزة، مما أثار حالة من الغضب واليأس في المناطق المتضررة مثل دانتيليا وكامارا. بينما ينتظر آخرون مصيرهم المجهول بقلق بالغ. هذا التسريح المفاجئ تهدد بزعزعة الاستقرار الاجتماعي، وحذرت مصادر في القطاع من احتمال وقوع احتجاجات شعبية وعرقلة حركة السكك الحديدية.
حوادث مؤلمة وتدهور معايير السلامة
لم تقتصر المشاكل على فقدان الوظائف فحسب، بل شهدت فترة الإنشاء أيضًا حوادث مؤسفة، بما في ذلك نفوق الماشية بسبب مرور القطارات. هذه الحوادث أثارت غضب المجتمعات المحلية، وأثارت مخاوف جدية بشأن معايير السلامة المتبعة في المشروع. بالإضافة إلى ذلك، سجلت تقارير حوادث وفاة بين العمال والسكان، مما زاد من الضغوط على الحكومة والشركات المسؤولة.
وعود حكومية وتحديات تنموية
اعترف وزير المناجم بونا سيلا بصعوبة الوضع، قائلاً: “ليس سهلاً أن يفقد الناس مصدر رزقهم فجأة”. وأكد أن الحكومة تخطط لإطلاق مشاريع بنية تحتية جديدة، مثل بناء الطرق والمصافي ومحطات الكهرباء، بهدف توفير فرص عمل بديلة. كما أطلقت السلطات خطة “سيماندو 2040” الطموحة، والتي تهدف إلى تنويع الاقتصاد من خلال الاستثمار في قطاعات مثل الزراعة والتعليم والتكنولوجيا، بتكلفة إجمالية تقدر بـ 200 مليار دولار، مع الاعتماد بشكل كبير على رؤوس الأموال الخاصة.
ومع ذلك، تبقى هذه الوعود مجرد خطط على الورق في الوقت الحالي، ولا يوجد جدول زمني واضح لتنفيذها. وهذا الأمر يزيد من حالة عدم اليقين والقلق لدى المتضررين. الاستثمار في البنية التحتية ضروري، لكنه وحده لا يكفي لمعالجة الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية المتعددة لهذه القضية.
تداعيات على التنمية وتقليص الفقر
على الرغم من التوقعات الإيجابية بشأن تأثير “سيماندو” على النمو الاقتصادي، إلا أن تقارير صندوق النقد الدولي تحذر من أن هذا التأثير قد يكون محدودًا فيما يتعلق بتقليص الفقر. بل إن هناك خطرًا من أن يزيد المشروع من فجوة التفاوت الاجتماعي، خاصة في المناطق الريفية. هذا يشير إلى أن توزيع الثروة بشكل عادل ومستدام يمثل تحديًا كبيرًا أمام الحكومة.
التنمية المستدامة تتطلب أكثر من مجرد استخراج الموارد الطبيعية. يجب أن تشمل أيضًا الاستثمار في التعليم والصحة والخدمات الأساسية، وتمكين المجتمعات المحلية، وضمان حماية البيئة.
هل سيحقق “سيماندو” الرخاء لغينيا؟
بعد ثلاثة عقود من بدء عمليات الاستكشاف، يظل السؤال مطروحًا: هل سيجلب مشروع “سيماندو” الرخاء الحقيقي لغينيا وشعبها، أم أنه سيظل مجرد مثال آخر على ثروة طبيعية هائلة لم تترجم إلى تنمية شاملة ومستدامة؟
في ظل الظروف الحالية، يبدو أن تحقيق هذا الحلم يتطلب جهودًا مضاعفة، وسياسات أكثر عدالة وشفافية، والتزامًا حقيقيًا بتحسين حياة جميع الغينيين، وليس فقط القلة المحظوظة. يجب على الحكومة والشركات العاملة في المشروع أن تتعاون بشكل وثيق مع المجتمعات المحلية، وأن تستمع إلى مخاوفهم، وأن تعمل على إيجاد حلول عملية ومستدامة لمعالجة الأزمة الاجتماعية المتفاقمة. مستقبل غينيا يعتمد على ذلك.















