في ظل التوترات التجارية العالمية المتصاعدة، تشهد العلاقات الاقتصادية بين الصين ودول جنوب شرق آسيا تحولاً ملحوظاً. يشهد حجم الصادرات الصينية إلى جنوب شرق آسيا نمواً غير مسبوق، مدفوعاً بشكل كبير بالحرب التجارية مع الولايات المتحدة. هذا النمو يثير تساؤلات حول تأثيره على اقتصادات المنطقة، والمنافسة المحلية، ومستقبل سلاسل التوريد العالمية.

نمو قياسي في الصادرات الصينية إلى جنوب شرق آسيا

شهدت الصادرات الصينية إلى أكبر ستة اقتصادات في جنوب شرق آسيا (إندونيسيا وسنغافورة وتايلاند والفلبين وفيتنام وماليزيا) ارتفاعاً ملحوظاً بنسبة 23.5% في الأشهر التسعة الأولى من العام الحالي، لتصل إلى 407 مليارات دولار مقارنة بـ 330 مليار دولار في نفس الفترة من العام الماضي. هذا الارتفاع يمثل تسارعاً كبيراً في النمو، حيث تضاعفت الصادرات الصينية إلى هذه الدول خلال السنوات الخمس الماضية. وتشير التوقعات إلى أن النمو في عام 2025 سيكون ضعف المعدل السنوي المركب البالغ 13% الذي شهدته السنوات الأربع السابقة.

تأثير الحرب التجارية الأمريكية الصينية

يعزو خبراء الاقتصاد هذا النمو المتسارع إلى عدة عوامل، أبرزها الحرب التجارية التي يشنها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب على الصين. الرسوم الجمركية الأمريكية على المنتجات الصينية دفعت الشركات الصينية إلى البحث عن أسواق بديلة، وجعلت دول جنوب شرق آسيا وجهة جذابة لتصدير منتجاتها. كما أن الرسوم الجمركية الأمريكية، التي تصل إلى 47% على بعض المنتجات، مقارنة بـ 19% في العديد من دول جنوب شرق آسيا، تشجع على تحويل مسار الصادرات عبر دول المنطقة لتجنب هذه الرسوم.

التحايل على الرسوم الجمركية وتأثيرها على سلاسل التوريد

تثير هذه الظاهرة مخاوف بشأن محاولات التحايل على الرسوم الجمركية الأمريكية. حذرت الولايات المتحدة من الشركات التي تحاول إخفاء المنشأ الصيني للمنتجات عن طريق إعادة توجيهها عبر دول أخرى، وهددت بفرض رسوم “إعادة الشحن” تصل إلى 40%. ومع ذلك، لا يزال من غير الواضح كيف يتم تطبيق هذه الرسوم عملياً.

تشير الأبحاث إلى أن جزءاً كبيراً من الصادرات الصينية إلى جنوب شرق آسيا، يصل إلى 60%، عبارة عن مكونات لمنتجات يتم تصنيعها في المنطقة ثم تصديرها إلى أسواق أخرى. هذا يشير إلى أن الصين تلعب دوراً متزايداً في سلاسل التوريد الإقليمية والعالمية. بالإضافة إلى ذلك، أصبحت الصين المورد المهيمن للسلع الاستهلاكية إلى جنوب شرق آسيا، مستحوذة على حصة سوقية من دول أخرى.

قطاع السيارات الصيني يكتسح الأسواق الإقليمية

أحد أبرز الأمثلة على هذا التحول هو قطاع السيارات. يشهد قطاع السيارات في جنوب شرق آسيا تحولاً كبيراً، حيث يفضل المستهلكون بشكل متزايد السيارات الكهربائية بأسعار معقولة التي تنتجها شركات صينية مثل “بي واي دي” (BYD). انخفضت حصة المنتجين اليابانيين في سوق السيارات إلى 62% في النصف الأول من عام 2025، مقارنة بمتوسط 77% في العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. في المقابل، زادت حصة الصين من مستويات ضئيلة إلى أكثر من 5% من مبيعات السيارات السنوية في المنطقة.

تحديات وفرص للاقتصادات المحلية

يثير هذا النمو في التجارة الصينية تحديات للاقتصادات المحلية في جنوب شرق آسيا. هناك مخاوف من أن “إغراق” الأسواق بالسلع الرخيصة قد يهدد المنتجين المحليين ويؤدي إلى خسارة الوظائف. وقد اتخذت بعض دول المنطقة إجراءات لحماية مصنعيها المحليين، مثل تشديد قواعد الاستيراد ودراسة فرض رسوم جمركية على سلع معينة.

ومع ذلك، يرى خبراء الاقتصاد أن هذه الإجراءات “جزئية” و”مؤقتة”. ويؤكدون على أن الحل يكمن في تطوير القدرات التنافسية للمصنعين في جنوب شرق آسيا. يقولون إن الشركات المحلية يجب أن ترتقي بمستوى الابتكار والجودة لتتمكن من المنافسة مع الشركات الصينية. الاستثمار في التكنولوجيا وتطوير المهارات هو أمر ضروري لضمان بقاء الصناعات المحلية قادرة على المنافسة.

مستقبل العلاقات التجارية بين الصين وجنوب شرق آسيا

من المتوقع أن يستمر نمو العلاقات التجارية بين الصين وجنوب شرق آسيا في المستقبل القريب. ومع استمرار التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، من المرجح أن تسعى الشركات الصينية إلى تعزيز روابطها التجارية مع جيرانها. هذا يمثل فرصة لدول جنوب شرق آسيا للاستفادة من النمو الاقتصادي الصيني، ولكنها تتطلب أيضاً اتخاذ تدابير لحماية مصالحها المحلية. التعاون الإقليمي وتعزيز التكامل الاقتصادي يمكن أن يلعب دوراً حاسماً في تحقيق التوازن بين الفوائد والتحديات التي يفرضها هذا التحول في المشهد التجاري العالمي.

شاركها.
اترك تعليقاً