حذّر تحليل نشرته صحيفة هآرتس الإسرائيلية من أن إحكام الحصار الإسرائيلي على سكان قطاع غزة والتقتير في السماح بدخول المساعدات من شأنه أن يضع دولة الاحتلال في معضلة قانونية، ورهن إمكانية الاستمرار في القتال من دون اعتباره “جرائم حرب” بكمية المؤن التي تدخل للسكان.

ودلل على الأزمة الإنسانية التي يعيشها سكان القطاع وسط نقص مقومات الحياة، إذ يجمع بعض السكان الأعشاب لإعداد وجبات الطعام، وتعجز الأمهات عن إرضاع أطفالهن لضعفهن، وهي المشاهد التي تنشرها وسائل الإعلام العربية والعالمية، من دون أن تتطرق إليها وسائل الإعلام الإسرائيلية، وفق التحليل.

وذكر التحليل أن الوضع يمكن تلخيصه في جملة واحدة صادمة قالها كبير الاقتصاديين في برنامج الأغذية التابع للأمم المتحدة، عارف حسين، وهي: “تعقيد وحجم وسرعة الأزمة لم يسبق لها مثيل”.

سبب للاحتفال

لكن في نظر عدد لا بأس به من الإسرائيليين، بمن فيهم مسؤولون كبار وصحفيون وأصحاب نفوذ، إن هذا يعد سببا للاحتفال، كما أن أي تخفيف للحصار وأي زيادة في عدد شاحنات المساعدات إلى غزة يضر بالمجهود الحربي، حسب ما يرون.

وفي السياق، عيّن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش مؤخرًا سيغريد كاغ في منصب كبيرة منسقي الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية وإعادة الإعمار في غزة، وأثار تعيينها عاصفة من الاحتجاجات لأن كاغ “مؤيدة للفلسطينيين” ومتزوجة من الوزير الفلسطيني السابق أنيس القاق (الذي كان أيضا سفير فلسطين لدى سويسرا)، ويرى مؤيدو “إحداث مجاعة في غزة” أن هذا يكفي لإثبات مرة أخرى أن الأمم المتحدة متحيزة، وفق التحليل.

وجاء تعيين كاغ في أعقاب قرار مخفف لمجلس الأمن الأسبوع الماضي يدعو إسرائيل إلى زيادة المساعدات الإنسانية والسماح بوصول المساعدات إلى غزة بسرعة وفعالية أكبر.

لكن التحليل لم يكترث بمن يشرف على الجهود ممثلًا عن الأمم المتحدة، ما دام أن الكميات التي تصل إلى غزة تلبي نحو 10% من الاحتياجات، وذلك بعد أن سمحت إسرائيل للشاحنات بدخول القطاع عبر معبر كرم أبو سالم، ومضاعفة عددها من 100 إلى 190 شاحنة يوميًا.

وحسب برنامج الغذاء التابع للأمم المتحدة، فإن الأغلبية المطلقة من سكان قطاع غزة الذين يزيد عددهم على مليوني نسمة يعانون انعدام الأمن الغذائي، وإذا لم يحدث تغيير جذري في نطاق المساعدات بحلول فبراير/شباط المقبل، فسوف ينخفض نحو نصفها إلى أدنى مستوى في تصنيف انعدام الأمن الغذائي، وهو ما يعني حالة طوارئ حادة.

 

مسألة مربكة

وحسب التحليل، إن هذه الأرقام المتعلقة بالجوع والفقر، خاصة إذا كان المصدر فلسطينيا، تشكل مسألة مربكة وغامضة ومثيرة للجدل في كثير من الأحيان، لكن إذا لم تتأثر الحكومة الإسرائيلية بالظروف السائدة في غزة، فيتعين عليها أن تشعر بالقلق إزاء العواقب القانونية التي قد تترتب على هذه الظروف، وفق التحليل.

في السياق، طلبت وزارة الخارجية الفلسطينية هذا الأسبوع من الأمم المتحدة أن تعلن رسميًا أن ثمة مجاعة في غزة تعرض حياة السكان للخطر، وأن تحمل إسرائيل مسؤولية “الإبادة الجماعية بالتجويع”، وهو ما يعني أن إسرائيل ترتكب جريمة حرب.

وتحظر اتفاقية جنيف تجويع السكان كوسيلة للحرب، فيُحظر مهاجمة أو تدمير أو جعل الوسائل الأساسية لبقاء السكان المدنيين غير صالحة للاستخدام، بما في ذلك المنتجات الغذائية والمناطق الزراعية ومياه الشرب ومرافق الري، وفي عام 1998، وصّفت المحكمة الجنائية الدولية استخدام التجويع كوسيلة للحرب في الصراعات الدولية بأنه جريمة حرب.

وفي عام 2019، وفق التحليل، تمت إضافة بروتوكولين إضافيين يحددان جرائم الحرب بحيث تشمل استخدام الجوع في النزاعات غير الدولية، مثل تلك التي تدور بين الحكومات والجماعات المتمردة، وقد أدت هذه البنود إلى ظهور عديد من التفسيرات القانونية المتضاربة، وظلت إحدى نقاط الخلاف الرئيسية هي كيفية إثبات أن نقص الغذاء والماء والأدوية سياسة متعمدة، وليس نتيجة حتمية للحرب، في حين يعد أحد أكثر التفسيرات قبولًا هو أن تصرفات الطرف المسبب للجوع تعد دليلا على النية، حتى لو لم يتم الإعلان عنها صراحة.

وفي حالة إسرائيل -وفق التحليل- فقد أعلنت في بداية الحرب أنها ستمنع دخول أي منتجات إلى غزة، وقال وزير دفاعها يوآف غالانت: “لن تكون ثمة كهرباء ولا طعام ولا وقود، كل شيء ممنوع. نحن نقاتل حيوانات بشرية، وسنتصرف وفقًا لذلك”.

وبعدها، قصفت إسرائيل معبر رفح، الذي كان من المفترض أن يكون معبرًا لدخول البضائع إلى القطاع، كما أفاد الناشطون في غزة في الشهر الأول من القتال بأن حوالي 30 مستودعًا للأغذية تم قصفها، وأعادت إسرائيل في ما بعد إمدادات المياه، لكن معظم آبار غزة أصبحت عديمة الفائدة بسبب نقص الوقود.

فقد تم قصف وتدمير المئات من محلات البقالة، بينما توقفت سلاسل التوريد عن العمل. وعلى الرغم من حقيقة أن إسرائيل أعلنت أجزاء من جنوب غزة (رفح بشكل رئيسي) “مناطق آمنة”، إلا أنها في الواقع ليست كذلك. فمن الصعب جدًا توصيل المواد الغذائية الأساسية إلى المنطقة، وفق التحليل الذي تساءل: “هل يقدم هذا دليلًا كافيًا على أن إسرائيل تجوّع غزة عمدًا كوسيلة غير قانونية لخوض حربها؟”.

خطوط حمراء

في عام 2009، تحدث أوري بلاو ويوتام فيلدمان في صحيفة هآرتس عن وجود وثيقة “خطوط حمراء” تم خطها عندما كان إيهود أولمرت رئيسًا للوزراء، وكان هدفها تحديد ما ينبغي السماح له بدخول غزة بعد سيطرة حركة المقاومة الإسلامية (حماس) عليها، لكنها في الأساس كانت تحدد ما يجب منعه، وفق التحليل.

وبعد صراع قانوني طويل بدأته المنظمة غير الحكومية (غيشا) في ذلك العام، سمحت المحاكم بإصدار الوثيقة للجمهور، ونشرت أميرة هاس المحتوى الكامل للوثيقة في صحيفة هآرتس عام 2012، وهي -وفق التحليل- وثيقة محاسبة مذهلة، إذ تم حساب الحد الأدنى اليومي من السعرات الحرارية التي يجب على إسرائيل السماح بها إلى غزة من دون المخاطرة بإحداث مجاعة، وفق مقياس دقيق، ومن ثم استنباط البيانات الأسبوعية والشهرية، التي تحدد بعد ذلك عدد شاحنات المساعدات التي يجب السماح بدخولها.

وحسب البيانات التي تم التوصل إليها، فإن حاجة القطاع تقتصر على 170.4 شاحنة للوصول إلى غزة يوميًا، وهو رقم يمكن تخفيضه بمقدار 68.6 شاحنة بسبب الإنتاج الزراعي المحلي، ومع الأخذ في الاعتبار احتياجات الأطفال الذين تقل أعمارهم عن عامين، بلغ العدد النهائي 101.8 شاحنة يوميًا.

وبعد أسبوعين من الحصار الكامل المفروض على غزة في بداية الحرب الحالية، بدأت إسرائيل السماح بدخول 20 شاحنة يوميًا (مقارنة بنحو 500 قبل الحرب)، وزاد العدد إلى 100، مؤخرًا، ثم تضاعف بعد ضغوط شديدة من قبل واشنطن. وعلى ما يبدو، تظهر حسابات عام 2009 أن إسرائيل وصلت الآن إلى عتبة منع المجاعة التي تم تحديدها عام 2007، وفق التحليل.

لكن عندما تم وضع “جدول السعرات الحرارية” في وثيقة “الخطوط الحمراء” -لتي اعتبرها التحليل وصمة عار أبدية- كان يعيش في قطاع غزة نحو 1.4 مليون نسمة، بينما يقدر عددهم، اليوم، بنحو 2.2 مليون نسمة، ويضاف ذلك إلى الاختفاء الكامل للإنتاج الغذائي المحلي، الزراعي أو غيره.

وحسب التحليل، يستخدم الاحتلال تقديرات عام 2007 في حساب كمية الأغذية المسموح بدخولها اليوم.

حرب اقتصادية

ادّعت إسرائيل في الماضي أن لها الحق في شن “حرب اقتصادية” على أعدائها، وهي تؤكد اليوم أن الحصار على غزة يهدف إلى حرمان العدو الحقيقي (حركة حماس)، من وسيلة للبقاء، ومن ثم المساعدة في تدميرها، لكن عندما تقيد بشكل خطير دخول الغذاء والدواء بصورة شاملة، فإنها تصنف السكان بالكامل على أنهم أعداء، ومن خلال القيام بذلك، فإن إسرائيل نفسها تقوض مزاعمها، وفق التحليل.

وذكر التحليل أن إسرائيل ليست الدولة الوحيدة التي تتخذ مثل هذه الإجراءات الصارمة، مستدعيا من ذاكرة الحروب العالمية “خطة التجويع” التي وضعها هتلر التي تسببت في وفاة حوالي 4.2 ملايين مواطن سوفياتي خلال الحرب العالمية الثانية، وما فعله بول بوت (الدكتاتور الكمبودي) -وفق التحليل- الذي استخدم التجويع الجماعي ضمن خطته لجعل بلاده ريفية عام 1945، كذلك استخدمت الولايات المتحدة “عملية التجويع” -وفق الاسم الرمزي- عندما أمر الأدميرال تشيستر نيميتز بزراعة آلاف الألغام البحرية حول موانئها لمنع دخول الغذاء.

وأشار التحليل إلى أن مثل هذه المقارنات التي من المفترض أن تعرض ظروفًا وملابسات متشابهة، وتؤدي إلى استنتاجات متطابقة، ليست مفيدة في حالة إسرائيل، ولا ينبغي أن تبرر إحداث مجاعة، حتى لو بغير قصد استهداف السكان في غزة.

وحسب التحليل، ربما لا تكترث إسرائيل بالجوانب الأخلاقية لوسائلها القتالية، بما في ذلك التجويع، لكنها بوصفها طرفا يشن حربًا من المتوقع أن تستمر لفترة طويلة، عليها أن تدرس باستمرار درجة الشرعية التي تتمتع بها الحرب في المجتمع الدولي، خاصة في الساحة الأميركية.

واختتم التحليل بالإشارة إلى أنه في اللحظة التي أوضح فيها الرئيس الأميركي جو بايدن أنه يبرر الحرب ويدعمها، ما دامت لا تخالف قوانين الحرب، فقد قرر أن الجانب الإنساني سيكون جزءا لا يتجزأ من الاعتبارات الإستراتيجية، وبذلك يرسم حدود الشرعية التي يمكن أن تتمتع بها إسرائيل.

ووفق التحليل، وبلغة المحاسبة (الأرقام الدقيقة) التي أحبها واضعو وثيقة “الخطوط الحمراء” منذ 16 سنة، فإن عدد السعرات الحرارية التي تدخل القطاع سيحدد عدد الأيام التي يمكن لإسرائيل أن تستمر في القتال فيها من دون اعتبارها دولة ترتكب جرائم حرب.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.