عندما نتحدث عن العراق، فإننا لا نتحدث عن بلد عادي، بل عن دولة تمتلك من الموارد والتاريخ ما يؤهلها لتكون في مصاف الدول المتقدمة اقتصاديا، لولا التحديات التي واجهها الاقتصاد العراقي على مدى عقود.
ولطالما كان الاعتماد على النفط المحرك الأساسي للاقتصاد، ما جعله عرضة لتقلبات الأسعار والأزمات المالية المتكررة، وهو ما انعكس على ضعف القطاعات الإنتاجية الأخرى، وتراجع الاستثمار، وتعطل العديد من المشاريع التنموية.
ومع تزايد الحاجة إلى إصلاحات جذرية، ظهر صندوق العراق للتنمية كمبادرة حيوية تهدف إلى إعادة رسم ملامح الاقتصاد العراقي، ووضع أسس جديدة للنمو المستدام، والاستثمار في مستقبل أكثر استقرارًا وازدهارًا.
صندوق العراق للتنمية
صندوق العراق للتنمية إحدى الأدوات الاقتصادية الحديثة التي تمثل نقلة نوعية في آليات التمويل التنموي داخل البلاد. وقد تم تأسيسه في عام 2023 ليكون بمثابة مؤسسة مالية تهدف إلى دعم مشاريع التنمية المستدامة، وتعزيز القطاعات غير النفطية، وتحفيز الاستثمارات المحلية والأجنبية، بما يسهم في تنويع الاقتصاد العراقي وتقليل اعتماده على العائدات النفطية.
يعمل الصندوق على تقديم التمويل للمشاريع الإستراتيجية في مجالات حيوية مثل التعليم، والصناعة، والزراعة، والبنية التحتية، والإسكان، بهدف تحسين جودة الحياة للمواطنين، ودفع عجلة النمو الاقتصادي، وخلق فرص عمل جديدة.
ويعتمد في إستراتيجيته على تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص، واستقطاب رؤوس الأموال الأجنبية، ما يجعله أداة حيوية في إعادة هيكلة الاقتصاد العراقي وفق أسس حديثة.
إطار قانوني وتشريعي
يحظى صندوق العراق للتنمية بإطار قانوني واضح، إذ تمت المصادقة عليه من قبل الحكومة العراقية والبرلمان، لضمان شفافية عمله واستقلاليته عن التأثيرات السياسية.
وقد تم تضمينه في الموازنة العامة لـ3 سنوات، مع تخصيص ملياري دولار سنويا كميزانية مبدئية، ما يعكس التزام الحكومة بدعم الصندوق وتعزيز دوره في إعادة بناء الاقتصاد العراقي.
ولضمان فعالية عمل الصندوق، تم وضع هيكل إداري يتمتع بدرجة عالية من الاستقلالية، بحيث تُدار موارده وفق معايير الحوكمة الرشيدة، وبإشراف لجان رقابية لضمان توجيه التمويل إلى المشاريع التنموية الحقيقية، بعيدًا عن الهدر أو الفساد المالي.
هذه الاستقلالية تجعله مختلفًا عن العديد من المبادرات السابقة التي لم تحقق أهدافها بسبب غياب الإدارة الفعالة والتخطيط بعيد المدى.
آلية العمل وأهم مصادر التمويل
ويعتمد الصندوق على آلية عمل تقوم على تحديد الأولويات التنموية وفق احتياجات الاقتصاد العراقي، مع التركيز على المشاريع التي تحقق أعلى قيمة مضافة وتساهم في التنمية المستدامة.
ويتم تمويل هذه المشاريع عبر مزيج من الموارد الحكومية، والشراكات الاستثمارية، والمنح والقروض التنموية، والإيرادات الناتجة عن المشاريع المدعومة من الصندوق.
ومن أهم مصادر موارده:
- المخصصات الحكومية التي تُقر سنويا في الموازنة العامة للدولة.
- العائدات الاستثمارية الناتجة عن المشاريع المدعومة من الصندوق، والتي تعزز من قدرته على تمويل مشاريع جديدة.
- التمويل الأجنبي والمساعدات الدولية، من خلال اتفاقيات التعاون مع المؤسسات المالية العالمية.
- المساهمة من القطاع الخاص عبر شراكات تنموية واستثمارات مباشرة في المشاريع الممولة من الصندوق.

مجالات عمل الصندوق
يعمل الصندوق على تمويل مشاريع ذات بُعد إستراتيجي تهدف إلى تعزيز الاقتصاد العراقي على المدى البعيد. ومن بين أهم القطاعات التي يركز عليها:
- التعليم.. مشروع “إيدوبا” نموذجًا
يعتبر التعليم من أبرز المجالات التي يوليها الصندوق اهتمامًا كبيرًا، إدراكًا لأهمية الاستثمار في رأس المال البشري لتحقيق التنمية المستدامة.
ومن هذا المنطلق، تم إطلاق مشروع “إيدوبا” للمدارس، الذي يهدف إلى تحديث النظام التعليمي في العراق، وتوفير بيئة تعليمية متطورة تواكب التطورات التكنولوجية العالمية.
واستلهم اسم المشروع من أول مدرسة عرفها التاريخ في العراق القديم، ليكون رمزًا لعودة العراق إلى دوره الريادي في نشر المعرفة.
يقوم المشروع على إنشاء مدارس حديثة مجهزة بأحدث الوسائل التعليمية، مع إدماج التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي في المناهج الدراسية، مما يساعد في سد الفجوة بين التعليم ومتطلبات سوق العمل.
- الإسكان.. مشروع “أجر وتملك”
في ظل تفاقم أزمة السكن في العراق، جاء مشروع “أجر وتملك” كأحد الحلول المبتكرة التي يوفرها الصندوق.
يقوم هذا المشروع على مبدأ الإيجار التمليكي، حيث يُتاح للمواطنين استئجار العقارات مع إمكانية تحويل الإيجار تدريجيا إلى ملكية، مما يسهّل على ذوي الدخل المحدود امتلاك مساكن دون الحاجة إلى قروض طويلة الأجل.
ويساهم هذا النموذج في توفير حلول سكنية مستدامة، وتحفيز قطاع البناء، وتشجيع الاستثمار في العقارات، مما يعزز النشاط الاقتصادي ويفتح فرصًا جديدة في سوق العمل.
- تنويع الاقتصاد.. دعم القطاعات الإنتاجية
يهدف الصندوق إلى الحد من الاعتماد على النفط عبر دعم القطاعات الاقتصادية الأخرى، مثل الزراعة، والصناعة، والسياحة، والتكنولوجيا. ومن خلال تمويل المشاريع الزراعية الحديثة، يتم تحسين الإنتاج الزراعي وتأمين الأمن الغذائي.
في حين أن دعم المشاريع الصناعية يسهم في خلق فرص عمل جديدة، ويقلل من الاعتماد على الاستيراد، ويعزز القدرة التنافسية للمنتجات العراقية في الأسواق العالمية.
تحديات
على الرغم من الفرص الواعدة التي يوفرها الصندوق، يواجه تحديات متعددة، منها البيروقراطية، والفساد الإداري، وغياب الاستقرار السياسي، وصعوبة استقطاب المستثمرين الأجانب في بيئة عمل غير مستقرة.
كما أن نجاح الصندوق يتطلب التزامًا طويل الأمد من الحكومة، ووجود سياسات داعمة تضمن استمراريته وفعاليته على مدى السنوات المقبلة.
كيف يمكن للمستثمرين المحليين والأجانب المشاركة في الصندوق؟
يعتبر الصندوق فرصة كبيرة للمستثمرين المحليين والأجانب الذين يرغبون في المساهمة في مشاريع تنموية مربحة. ويتيح للمستثمرين عدة طرق للمشاركة، مثل:
- الشراكة مع الحكومة في تنفيذ المشاريع الإستراتيجية، من خلال نظام الشراكة بين القطاعين العام والخاص.
- الاستثمار المباشر في المشاريع التي يمولها الصندوق، خاصة في قطاعات مثل الطاقة المتجددة، والبنية التحتية، والتكنولوجيا.
- تقديم التمويل للمشاريع الصغيرة والمتوسطة عبر برامج الإقراض المدعومة من الصندوق، ما يتيح فرصة لتنمية القطاع الخاص.
- الدخول في برامج الاستثمارات طويلة الأجل التي يطلقها الصندوق، والتي توفر عوائد مستقرة ومضمونة للمستثمرين.
نحو مستقبل اقتصادي أكثر استقرارًا
ومع استمرار عمل الصندوق وتمويله للمشاريع التنموية، يصبح الأمل بتحقيق نهضة اقتصادية حقيقية في العراق أقرب إلى الواقع.
فبدلًا من الاعتماد على الحلول قصيرة الأمد، يعمل الصندوق على تأسيس اقتصاد متنوع ومستدام، يضمن للأجيال المقبلة فرصًا أفضل للحياة الكريمة.
العراق، بفضل موارده وكفاءاته، قادر على استعادة مكانته الاقتصادية، وصندوق العراق للتنمية قد يكون المفتاح الأساسي لتحقيق هذا الهدف.
لكن نجاح هذا الصندوق مرهون بمدى الالتزام بالشفافية، وحسن الإدارة، وضمان الاستقلالية بعيدًا عن التجاذبات السياسية، ليكون بالفعل أداة للإصلاح الاقتصادي، وبوابة لمستقبل أكثر ازدهارًا.