يتعرض مشروع التحول الرقمي للخدمات الحكومية في سوريا لهزة عنيفة، بعد أن فشلت منظومة الدفع الإلكتروني في أداء وظيفتها على مستوى البلاد، لعوامل يقول خبراء إن من بينها ضعف البنية التحتية، وانقطاع الكهرباء والاتصالات والربط الإلكتروني، وغياب الخدمة المصرفية المتكاملة.
ومنذ مطلع يناير/ كانون الثاني المنصرم، أعلن مركز خدمة المواطن الإلكتروني، الذي أحدثته وزارة الاتصالات وتقانة المعلومات للانتقال بالخدمات الحكومية من الشكل التقليدي إلى الصيغة الإلكترونية، توقف شبكته بقنواتها الثلاث (أنجز، المكتب القنصلي، بوابة العرب والأجانب) عن العمل مرات عديدة، نتيجة “أعمال صيانة وتأهيل”، مما أدى إلى توقف 65 خدمة إلكترونية يزعم المركز أنه كان يقدمها عبر بوابته.
كما خرجت تطبيقات بعض المصارف هي الأخرى عن الخدمة بسبب انقطاع شبكة الإنترنت، وتوقف نظام الدفع الإلكتروني، ليقع الأشخاص الذين لديهم التزامات مالية لجهات حكومية تحتاج إلى تسديد في موعدها بمشكلات عديدة.
مأزق ما قبل التحول
من جهته اشتكى محمد المكتتب في مشروع السكن الشبابي بدمشق، من توقف خدمة التسديد الإلكتروني في المصرف العقاري (حكومي) والشركة السورية للمدفوعات، لفترات متقطعة، وبررت الجهة المسؤولة توقفها بسبب انقطاع خطوط الاتصال بينه وبين مزودي الخدمة.
وأوضح للجزيرة نت أن الخدمة عادت لاحقا، لكنها لم تلبث أن انقطعت من جديد، واستمر الأمر بين العودة والانقطاع. وأشار إلى أن المؤسسة العامة للإسكان، الجهة المعنية بمشروع السكن، رفضت تمديد تسوية أوضاع المكتتبين المتخلفين عن سداد الأقساط المترتبة عليهم، وتجري المحاولات لإيجاد مخرج من هذا المأزق.
وفي السياق ذاته، اشتكى منير من عدم فاعلية تطبيق آخر يعود لأحد المصارف الحكومية، وحاول تفعيله أكثر من مرة، دون جدوى. فاضطر لمراجعة أحد فروع المصرف لتفعيله، وعندما عاد إلى المنزل وجده لا يعمل.
كما حاول وائل استصدار جواز سفر مستعجل، عبر المنصة الإلكترونية لـ”دائرة الهجرة والجوازات”، للالتحاق بإحدى الجامعات “خارج البلاد” أبلغته قبول انضمامه، لكنه وجد أن المنصة لا تعمل، فاضطر للتوجه إلى مكتبة قريبة من مقر إدارة الهجرة وأتم معاملته مقابل مبلغ من المال.
إجراءات حكومية غير ناجحة
وخلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، تعرضت منظومة الدفع الإلكتروني لحملة انتقادات واسعة، شنتها وسائل إعلام -حكومية وخاصة- ومنصات إلكترونية -موالية ومعارضة- اتهمت الحكومة بفرض المنظومة على المواطنين، في وقت يعاني فيه القطاع المالي من ترهل، وضعف في الشمول، وقطاع الاتصالات والإنترنت من ضعف في بنيته التحتية، ومن المفترض قبل الزاميتها، توفير الوصول السلس للخدمات التي تقدمها هذه القطاعات، وتمكين المواطنين منها.
في السياق نفسه، انتقد أستاذ الاقتصاد في جامعة دمشق الدكتور شفيق عربش، أداء المنظومة. وقال إن الخدمات التي نفذتها الحكومة إلكترونيا بشكل إلزامي خلقت حالات اختناق وازدحام وإرباك للمواطن وللجهات المقدمة للخدمة.
وأضاف في تصريحات لصحيفة الوطن المحلية: “إننا غير جاهزين لهذا الانتقال بالطريقة التي تريدها الحكومة، لأننا لا نملك بنيته التحتية، والمشكلة الأساسية تتمثل في أن الحكومة تعتقد منذ تسلمها عملها أن الحل الأساس لكل المشكلات وخاصة الاقتصادية، هو تثبيت سعر الصرف، وترى أنها من خلال الدفع الإلكتروني تستطيع الاطلاع وإدارة المعروض النقدي، بما يخدم سعر الصرف، ومع كل الإجراءات غير الاقتصادية وغير الشعبية التي نفذتها، لم تنجح بذلك”.
وبين أن سعر صرف الدولار كان مع بداية تسلم الحكومة الحالية أعمالها بحدود 900 ليرة، في حين وصل حاليا في السوق الموازية لنحو 15 ألف ليرة، بينما تضاعفت الأسعار إلى ما يعادل 600%.
وتساءل عربش: “إذا كانت الحكومة غير قادرة على تقديم خدمة الصرافات البسيطة بشكل جيد، كيف يمكن أن تتجه لتنفيذ وإلزام الناس بمشروع دفع إلكتروني، لا تتوفر له البنى التقنية اللازمة؟”.
إستراتيجية بـ 12 برنامجا و49 مشروعا
وتبنت حكومة نظام الرئيس بشار الأسد في أغسطس/ آب 2021 إستراتيجية للتحول الرقمي، تتألف من 3 محاور:
- الخدمات الحكومية الإلكترونية.
- تحسين كفاءة الأداء الحكومي.
- البيئة التمكينية للتحول الرقمي.
تهدف -بحسب مصدر رسمي- في مجملها إلى إشراك قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات بالناتج المحلي الإجمالي، وتفعيل الشفافية، وعملية مكافحة الفساد، واستبدال آلية تقديم الخدمات العامة بآلية رقمية مؤتمتة، شفافة وشاملة.
تنفيذ الإستراتيجية تتم على 3 مراحل:
- بناء البنى التحتية الداعمة للتحول الرقمي، وتمتد زمنيا من عام 2021 إلى عام 2023.
- الانتقال للخدمات التفاعلية: استثمار هذه البنى من خلال إطلاق وتنفيذ برامج ومشاريع التحول الرقمي، وتمتد زمنيا من عام 2023 إلى عام 2027.
- التحول الرقمي، ويمتد من عام 2027 إلى عام 2030.
دعم منتظر لاقتصاد متهالك
في المقابل، يرى محللون أن الهدف الحقيقي من هذا التحول، هو تحسين صورة الاقتصاد الذي أنهكته الحرب الدائرة بين نظام الأسد ومعارضيه منذ 13 عاما، بعد أن شهدت العلاقات السورية العربية انفتاحا، تأمل دمشق أن يترجم إلى دعم ينتشل اقتصادها المتهالك من الحضيض.
إذ من المتوقع أن يصل حجم خسائره، خلال السنوات العشر القادمة، بحسب تقديرات منظمة الرؤية العالمية وشركة فرونتير إيكونيكمس بأحدث تقرير لهما، إلى تريليون و200 مليار دولار، وقد تزيد خسائره التراكمية لتصل إلى تريليون و400 مليار دولار بحلول عام 2035.
وكان رئيس النظام السوري قد أصدر القانون رقم 21 لعام 2023، القاضي بإلزام اعتماد الحسابات المصرفية، لاستيفاء المطالبات المالية لأصحاب المهن والنشاطات.
في حين استبقت الحكومة السورية القانون الرئاسي، وأعلنت في عام 2020 أنها ستعتمد استخدام نظام الدفع الإلكتروني، وستلزم المواطنين بإجراء كل المعاملات المالية تقريبا عبر الإنترنت، بما في ذلك دفع فواتير الخدمات العامة، وفواتير الهاتف، ومخالفات المرور، والرسوم المالية.
من المستفيد؟
يرى أستاذ الاقتصاد والمدير الأسبق للبنك المركزي السوري الدكتور دريد درغام أن الدفع الإلكتروني يلبي احتياجات الحكومة وليس احتياجات المواطن، إذ إن احتياجات الإقراض والادخار والتأمين لا يتم تلبيتها عبر الدفع الإلكتروني، وإنما يتم عبره تلبية احتياجات الدفع فقط، وبشكل نسبي.
وأوضح في دراسة له وجود نقص في عدد المنافذ التقليدية المتاحة (فروع، مكاتب، معتمدين) للسحب والإيداع والتحويل، خصوصا في القرى الكبيرة وبعض الأحياء في المدن، منتقدا عدم إمكانية تتبع الأداء، وذلك لنقص في المعطيات والبيانات.
وأرجع درغام السبب وراء عدم نجاح الدفع الإلكتروني في سوريا إلى نقص القدرة الشرائية، فلا يمكن إقناع شخص ما بأن يتعامل بالدفع الإلكتروني، إذا كان أجره الشهري لا يكفيه أكثر من أسبوعين فقط، مبينا وجود نفور من قبل ذوي الدخل المحدود من هذه المنظومة، ورفضهم حتى الادخار بالمصارف، بسبب التضخم وقيود السحب التي تختلف حسب القرارات بين حين وآخر.
ويودع المواطن في الحالة الاعتيادية كل أمواله في المصرف، ويسدد منها حسب الحاجة. أما ما يحصل في سوريا برأي درغام فهو أن المواطن يغذي حسابه عندما يتوجب عليه دفع الفاتورة، فتترتب عليه تكاليف إضافية من أجور نقل للوصول إلى مراكز تغذية الحسابات، وهذا يعني الانتظار بالطوابير، فضلا عن أن إجبار المواطنين على الدفع الإلكتروني يعني أيضا وجود عمولات على عمليات الإيداع والسحب والدفع، وهنا تسير الأمور بالعكس، لأن المنطق يقول إن المصرف يجب أن يقوم بدوره، والعمولات هي استثناء.
5 أسس لبناء بيئة رقمية ناجحة
تؤكد تقارير رسمية حكومية أن الجهات المعنية بمشروع التحول الإلكتروني لم تتمكن إلى الآن من إنجاز المرحلة الأولى من الإستراتيجية المعلنة (بناء بنية تحتية تدعم هذا التحول) التي كان من المقرر الانتهاء منها في 2023.
ومع ذلك تم العمل بالخدمات التفاعلية، كمنظومة الدفع الإلكتروني وغيرها، رغم فشل الربط الشبكي الموحد بين المؤسسات المالية والمصرفية من جهة والشركة السورية للمدفوعات الإلكترونية وشركات الدفع الخاصة من جهة أخرى، وغياب الأدوات التكنولوجية والدعم اللوجستي المطلوب.
ويرى الخبير السوري المختص بتكنولوجيا المعلومات رشيد البني، أنه كان من المفترض أن تتوفر 5 أسس قبل الانتقال لهذا التحول، هي:
- البنية التحية
- التشريعات والسياسات
- المهارات الرقمية
- التمويل
- الحوكمة
وقال في حديثه للجزيرة نت: “إن توفر هذه الأسس يحتاج إلى برامج عمل قابلة للتنفيذ بأطر زمنية، ومؤشرات أداء لقياس مدى تقدم وإنجاز كل مرحلة”.
وركز البني على وجود تباين جلي بين ما تقرره الحكومة السورية على هذا الصعيد، وبين الإمكانات المتوفرة لتنفيذ ما تقرره، مبينا أن الصراع الذي تشهده البلاد جفف منابع الاقتصاد، وحول سوريا إلى دولة هشة غير قادرة على تأمين سبل الحياة لشعبها، نظرا لوجود تراجع كبير في أداء القطاعات المنتجة، وانهيار قيمة العملة المحلية، وارتفاع التضخم لمستويات عالية جدا، علاوة إلى افتقار المؤسسات الحكومية لثقة المواطن، ومنها المصارف، التي تعتمد عليها منظومة الدفع الإلكتروني بشكل أساسي.
وقال البني إن من مؤشرات فشل إستراتيجية التحول الرقمي في سوريا في الوقت الراهن عدم وجود استقرار سياسي، وغياب الأمن والأمان، وانتشار الفساد، وتأرجح سلطة الدولة، والزبائنية في الاقتصاد مع انعدام الشفافية والحوكمة ونفاذ القانون.
رهان على الحصان الخاسر
ويعتبر مشروع الدفع الإلكتروني أحد المشاريع الأساسية التي تراهن الحكومة على نجاحه ضمن إستراتيجية التحول الرقمي للخدمات الحكومية، والوصول إلى مجتمع رقمي يواكب التقدم التكنولوجي والمعرفي في المنطقة والعالم.
وأقرت معاونة وزير الاتصالات والتقانة في حكومة الأسد فادية سليمان خلال افتتاح ورشة عمل تمحورت حول التحول الرقمي في القطاع المالي والمصرفي، بصعوبات جمة تواجه مشروع التحول الرقمي في سوريا، ومنها موضوع الموارد البشرية.
وأشارت في تصريح لها إلى أن المشروع يعاني من موضوع التمويل، حيث يتطلب الانطلاق بمثل هذه المشاريع وجود استثمارات ضخمة، وبالتالي فإن الوزارة من الممكن أن تضطر للتوجه إلى إيجاد مصادر تمويل مختلفة.
وسجلت سوريا خلال الأعوام الأخيرة أداء ضعيفا في قدرات ومقومات اقتصادها الرقمي، وأحرزت رقمنة قطاعاتها الاقتصادية على مستوى الاقتصاد الكلي، وفقا لتقرير التحولات الرقمية في الدول العربية الصادر عن صندوق النقد العربي عام 2020 درجة متدنية، لم تتجاوز 1 من 5 في 3 قطاعات (الزراعة والصناعات التحويلية وغير التحويلية) في حين نالت درجة 1.71 في قطاع الخدمات ضمن ترتيب الدول العربية من حيث قيمة المؤشر (1 ضعيف، 5 مرتفع).
كما بلغت قيمة مؤشر اقتصادها الرقمي تبعا للبنية التحتية والسياسات واللوائح والمهارات الرقمية والتمويل والحوكمة، وفق المصدر، 26.06، وهي قيمة سلبية تعكس الأداء الضعيف على مستوى التحول.