بعد عقود من الانفتاح الاقتصادي، بدأت الحكومات الغربية في إعادة تقييم استراتيجياتها تجاه الاستثمار الصيني، خاصةً فيما يتعلق بالسيطرة على الأصول الصناعية الحيوية. هذا التحول يأتي مدفوعًا بتصاعد المخاوف الجيوسياسية والرغبة في حماية ما يُعرف بـ الاستثمار الصيني و”وسائل الإنتاج” من الوقوع تحت تأثير بكين. لم يعد الأمر مجرد منافسة اقتصادية، بل أصبح مرتبطًا بالأمن القومي والقدرة على الحفاظ على التفوق التكنولوجي.

تراجع الغرب.. وإعادة النظر في صفقات الماضي

لطالما سمحت الدول الغربية للشركات الصينية بالاستثمار وشراء أصول في أوروبا وأمريكا الشمالية، وذلك في إطار سياسات العولمة وتشجيع التجارة الحرة. ومع ذلك، يرى صانعو السياسات الآن أن هذا الانفتاح قد يكون قد أدى إلى انتقال ملكية شركات وتقنيات استراتيجية إلى جهات مرتبطة بالحكومة الصينية. هذا الأمر يثير قلقًا بالغًا بشأن القدرة على التحكم في سلاسل التوريد الحيوية، والوصول إلى التكنولوجيا المتقدمة، وحتى التأثير المحتمل على القرارات السياسية.

قضية نيكسبيريا: رمز لـ “ندم البائع”

تبرز قضية شركة “نيكسبيريا” الهولندية لصناعة الرقائق كمثال صارخ على هذا التحول في الرأي. فبعد بيعها لمستثمرين صينيين في عام 2016، ثم استحواذ شركة “وينغتك تكنولوجي” الصينية عليها في عام 2018، حاولت الحكومة الهولندية في أكتوبر الماضي السيطرة على الوحدة التابعة للشركة، مستندةً إلى قانون يعود إلى حقبة الحرب الباردة.

دوافع التدخل الحكومي

يعود السبب الرئيسي وراء هذا التدخل إلى الخشية من نقل الملكية الفكرية وخطوط الإنتاج إلى الصين. فالرقائق التي تنتجها نيكسبيريا، على الرغم من أنها ليست الأكثر تطورًا، إلا أنها مكون أساسي في صناعة السيارات، مما يجعلها ذات أهمية استراتيجية كبيرة. كما أن هذه الخطوة جاءت بعد قرار أمريكي بتوسيع قائمة العقوبات لتشمل فروعًا أجنبية لشركات صينية مدرجة على القوائم السوداء.

رد فعل الصين وتداعياته

ردت الصين على هذه الإجراءات بمنع تصدير رقائق معبأة من مصنع نيكسبيريا في الصين، مما هدد بتعطيل إنتاج السيارات في أوروبا وخارجها. هذا التصعيد دفع الولايات المتحدة وهولندا إلى التراجع مؤقتًا عن قراراتهما، لكن التوترات لا تزال قائمة، وتسعى “وينغتك” حتى الآن لاستعادة سيطرتها الكاملة على الشركة.

الاستثمار الصيني: أداة سياسية وليست مجرد صفقة تجارية

تؤكد أليثيا غارسيا هيريرو، كبيرة اقتصاديي آسيا والمحيط الهادي في “ناتيكسيس”، أن قضية نيكسبيريا يجب أن تقضي على أي أوهام متبقية بشأن طبيعة الاستثمار الصيني في أوروبا. فهو ليس مجرد معاملات تجارية خاضعة لمنطق السوق، بل هو أداة لسياسة الدولة، مشروطة بالظروف الجيوسياسية.

هذا يعني أن الشركات الصينية التي تستثمر في الخارج غالبًا ما تتلقى دعمًا حكوميًا كبيرًا، وأن قراراتها لا تتخذ بالكامل بناءً على اعتبارات اقتصادية بحتة. بالإضافة إلى ذلك، يمكن للحكومة الصينية أن تتدخل في عمليات هذه الشركات، أو أن تفرض عليها قيودًا، إذا رأت أن ذلك يخدم مصالحها الوطنية.

الحاجة إلى آليات مراقبة ورقابة

نتيجة لذلك، يرى الخبراء أن الاتحاد الأوروبي بحاجة ماسة إلى تطوير أدواته للتعامل مع الاستثمار الصيني الوارد، وكذلك مراقبة ما يخرج من أصول وتقنيات. ويقترحون إنشاء آلية مماثلة للجنة الاستثمار الأجنبي في الولايات المتحدة (CFIUS)، والتي تقوم بمراجعة صفقات الاستثمار الأجنبي التي قد يكون لها تداعيات على الأمن القومي.

أمريكا تراجع صفقاتها أيضًا

لا يقتصر هذا التحول على أوروبا فحسب، بل يشمل أيضًا الولايات المتحدة. ففي عام 2020، ألغت إدارة ترامب صفقة استحواذ مجموعة صينية على شركة “جوبيتر سيستمز” الأمريكية، بدعوى أن منتجات الشركة يمكن استخدامها في “البيئات العسكرية والبنى التحتية الحساسة”. كما أن هناك حالة أخرى قيد الدراسة، وهي إفلاس شركة “آي روبوت” وسعيها لنقل السيطرة إلى موردها الصيني الرئيسي.

معركة “وسائل الإنتاج” في عالم متغير

تتزايد محاولات الحكومات الغربية “لاسترداد” الأصول الاستراتيجية، خاصةً مع إدراكها للمخاطر المتزايدة من استخدام الصين للإمدادات الحيوية كسلاح، وصعوبة بناء سلاسل توريد بديلة من الصفر. وفي حين قد ترد الصين بتقييد صادرات أساسية، فإن هذا قد يعزز القناعة في أوروبا وأميركا بضرورة تقليص اعتمادهما على بكين، واستعادة السيطرة على “وسائل الإنتاج” التي تمّ التفريط بها خلال عقود العولمة.

مستقبل الاستثمار الأجنبي والاعتماد المتبادل

هذا الصراع المتصاعد حول الاستثمار الصيني و”وسائل الإنتاج” يمثل تحولًا كبيرًا في المشهد الاقتصادي والجيوسياسي العالمي. إنه يشير إلى نهاية حقبة من الانفتاح الاقتصادي غير المشروط، وبداية حقبة جديدة من الحذر والرقابة. كما أنه يثير تساؤلات مهمة حول مستقبل الاعتماد المتبادل بين الدول، وكيف يمكن تحقيق التوازن بين الفوائد الاقتصادية والمخاطر الأمنية. من الواضح أن هذه القضية ستظل في صدارة جدول الأعمال السياسي والاقتصادي في السنوات القادمة، وستتطلب حلولًا مبتكرة ومعقدة.

الكلمات المفتاحية الثانوية: سلاسل التوريد، الأمن القومي، التكنولوجيا المتقدمة.

شاركها.
اترك تعليقاً