في خضم التطورات الاقتصادية والسياسية العالمية، يواجه الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية (ESG) في الاتحاد الأوروبي تحديات جديدة، أبرزها التهديدات المتصاعدة من الولايات المتحدة. ورغم التعديلات الأخيرة التي طرأت على هذا الإطار، والتي جاءت استجابة لضغوط أمريكية وقطرية، لا يزال مستقبل تطبيق هذه المعايير موضع جدل. يثير هذا الجدل تساؤلات حول مستقبل الاستدامة والمسؤولية الاجتماعية للشركات، وتأثير ذلك على العلاقات التجارية بين الجانبين الأطلسي.

تطورات الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية في الاتحاد الأوروبي

كان الاتحاد الأوروبي قد تبنى إطار عمل طموحًا للحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية، يهدف إلى إلزام الشركات بالإفصاح عن أدائها في مجالات الاستدامة وحقوق الإنسان. تضمن هذا الإطار توجيهات لإعداد تقارير الاستدامة للشركات (CSRD) وتوجيهات العناية الواجبة في مجال الاستدامة (CSDDD). لكن هذه التوجيهات واجهت معارضة شديدة، خاصة من الولايات المتحدة وقطر، التي اعتبرتها عبئًا اقتصاديًا وتقييدًا للتجارة.

الضغوط الأمريكية والقطرية وتعديل الإطار

في أكتوبر الماضي، عبرت كل من قطر والولايات المتحدة عن قلقهما العميق بشأن الإطار المقترح، محذرة من أنه قد يؤثر سلبًا على القدرة على تحمل تكاليف الطاقة، ويعيق نمو الاقتصاد الصناعي في أوروبا، ويقلل من قدرته التنافسية. وقد دعت الدولتان الاتحاد الأوروبي إلى إجراء تعديلات جوهرية، تصل إلى حد إلغاء توجيه العناية الواجبة أو إزالة أحكامه الأكثر ضررًا.

استجابة لهذه الضغوط، قام الاتحاد الأوروبي بتخفيف الإطار، معفيًا أكثر من 80% من الشركات التي كانت خاضعة له. ومع ذلك، تم الاتفاق على استمرار تطبيق هذه القواعد على الشركات الأجنبية الكبيرة التي تمارس أعمالها داخل الاتحاد الأوروبي. هذا التعديل لم يرضِ الولايات المتحدة، التي تعتبره غير كافٍ.

ردود الفعل الأمريكية والتهديدات التجارية

أعرب المسؤولون الأمريكيون عن استيائهم من استمرار تطبيق معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية على الشركات الأجنبية. ووصف كبير المفاوضين التجاريين للرئيس ترامب، جيمسون غرير، الاتفاق بأنه غير كافٍ، وهدد بوقف العمل باتفاقية الرسوم الجمركية عبر الأطلسي التي تم التوصل إليها مؤخرًا.

وقال غرير في جلسة استماع بمجلس الشيوخ: “عليهم الوفاء بهذا.. الحقيقة هي أنه إذا لم يلتزم الأوروبيون بتعهداتهم، فلن يستفيدوا من الإعفاءات الجمركية الممنوحة لهم”. هذا التصريح يعكس التصعيد في التوترات التجارية بين واشنطن وبروكسل، ويضع الاتحاد الأوروبي أمام خيار صعب: التنازل عن معايير الاستدامة، أو المخاطرة بفقدان مزايا تجارية مهمة.

موقف الاتحاد الأوروبي والتحديات المستقبلية

يرى بعض المشرعين الأوروبيين أنه لا يوجد مجال كبير للمناورة في إطار الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية المعدل. ويؤكدون على أهمية الحفاظ على تكافؤ الفرص وضمان الأغلبية البرلمانية. ويشير يورغن واربورن، وهو مشرع أوروبي بارز، إلى أن توجيه العناية الواجبة المتعلقة بالاستدامة “يُعدّ بطبيعته أداةً خارجة عن نطاق الاتحاد الأوروبي”، وبالتالي فإن نطاقه الإجمالي “يبقى” قائما.

أهمية معايير الاستدامة وتأثيرها على الاستثمار

على الرغم من الضغوط، يصر مؤيدو معايير الاستدامة على أهمية هذه المعايير في ضمان مستقبل مستدام. ويحذرون من أن عدم إلزام الشركات العاملة في الاتحاد الأوروبي بالامتثال لقواعد الاستدامة سيؤدي إلى عواقب وخيمة، خاصة وأن المستثمرين لن يعرفوا كيفية تقييم وجهة استثماراتهم. هذا الأمر قد يؤدي إلى عزوف المستثمرين عن الشركات التي لا تلتزم بمعايير الاستدامة، وبالتالي تقويض جهود التحول الأخضر.

التوترات المتزايدة بين واشنطن وبروكسل

تأتي هذه الخلافات حول الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية في سياق توترات أوسع بين واشنطن وبروكسل، تشمل قضايا تنظيمات التكنولوجيا والإنفاق الدفاعي. كما أن إدارة ترامب لم تخفِ استياءها من معايير الاستدامة بشكل عام، واعتبرت بعض البنود الرئيسية، مثل أهداف الحياد الكربوني، بأنها “كارثية”.

مستقبل الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية

يبدو مستقبل تطبيق معايير الحوكمة البيئية والاجتماعية والمؤسسية في الاتحاد الأوروبي غير مؤكد. فمن ناحية، هناك ضغوط متزايدة من الولايات المتحدة للتنازل عن هذه المعايير. ومن ناحية أخرى، هناك إصرار أوروبي على الحفاظ على التزامات الاستدامة، وضمان مستقبل مستدام للأجيال القادمة.

من المرجح أن يستمر هذا الجدل في الأشهر والسنوات القادمة، وقد يؤدي إلى مزيد من التوترات التجارية بين الجانبين الأطلسي. يبقى أن نرى ما إذا كان الاتحاد الأوروبي سيتمكن من إيجاد حل وسط يرضي جميع الأطراف، ويضمن في الوقت نفسه تحقيق أهداف الاستدامة. من المهم متابعة هذه التطورات، وفهم تأثيرها على الشركات والمستثمرين والاقتصاد العالمي. كما أن فهم أهمية المسؤولية الاجتماعية للشركات أصبح ضروريًا في هذا السياق المتغير.

شاركها.
اترك تعليقاً