احتضنت مقابر النسيم بالرياض أشهَر رواد التعليم الأهلي بالمملكة وصاحب الأيادي البيضاء الشيخ محمد بن إبراهيم الخضير، راحلًا عنا الخميس الماضي، تاركًا خلفه غراس الصناعة وثمار العلم، بعد مسيرة طويلة من العطاء، بدأها قبل أكثر من 65 عامًا حينما أنشأ مدارس التربية النموذجية، وكذلك أول من نادى بتعليم الفتيات.
أثره باقٍ
“أن أُبقِي لأولادي وأحفادي وذريتي المتعاقبة حكايتي التي تماثل قصص بعض المعاصرين لي بما فيها من تعب وكد وشظف كي يعلموا شيئًا من تراث أوائلهم وسيرهم ويتعلموا من دروسها وثمارها ويتجنبوا عثراتها وأشواكها”.. هكذا فضّل رائد التعليم الأهلي في المملكة، الشيخ محمد بن إبراهيم الخضير، أن يكون هدف كتابه الشهير “رحلة بين قرنين”، والذي صدر قبل سنوات قليلة.
اهتمام مبكر بالتعليم
وُلِد الشيخ محمد بن إبراهيم الخضير في مدينة الخبراء بالقصيم، وتلقى تعليمه بالكتاتيب، ثم أكمل دراسته بالمدارس النظامية حتى حصل على الثانوية العامة، وفي عام 1369هـ الْتحق بالعمل بشركة أرامكو وتعلم الإنجليزية بشكل جيد، ولولعه الشديد بالتعليم قام بتأسيس مدرسة مسائية لتعليم القراءة والكتابة لزملائه، في عام 1371هـ؛ حيث كان يعمل في الفترة المسائية مدرسًا في المدرسة دون مقابل.
وفي عام 1374هـ، قدّم الخضير مقترحًا وافقت عليه الشركة، هو تأسيس مدارس لأبناء العاملين بالمزارع واحدة بـ”السهبا” والأخرى بـ”خفس دغرة”، وقام هو بإدارة المدرستين والإشراف عليهما، ليقوم بعد ذلك بتأسيس مدارس ليلية بالخرج لمكافحة الأمية، استقطب إليها أكثر من ثلاثين مدرسًا، وكان عدد الدارسين فيها أكثر من 1500 دارس، ثم قام عام 1378هـ- 1958م بتأسيس مدارس التربية النموذجية التي تضم مرحلة رياض الأطفال والمرحلة الابتدائية للبنين والبنات تضم حوالى 50 طالبًا وطالبة.
وفي وقت قل فيه الاستثمار في مجال التعليم، أصر الشيخ محمد بن إبراهيم الخضير على أداء رسالته، فكان يوزع راتبه إلى جزأين؛ أحدهما لمعيشة أسرته والآخر لدعم المدارس من حيث تأمين رواتب المعلمين والمعلمات والمصاريف المدرسية، وبهذا توسعت مدارس التربية النموذجية لتصبح سلسلة مدارس متميزة خرّجت آلاف الطلبة والطالبات الذين قادوا مسيرة التنمية في المملكة في مختلف المجالات.
مشاريع خيرية
ويُنسَب للشيخ الخضير -رحمه الله- الفضلُ في العديد من المبادرات والإنجازات في الحقلين الاجتماعي والخيري؛ خاصة أنه أنجز أعمالًا وقفية في عدد من المدن في المملكة.
في عام 1423هـ وضع الراحل حجر الأساس للمشروع النسائي الخيري برياض الخبراء بتكلفة مالية وصلت إلى 20 مليون ريال، وآنذاك قام أمير منطقة القصيم بوضع حجر الأساس لهذا المشروع الكبير، الذي تَضَمّن: دارًا نسائية لتحفيظ القرآن الكريم، ومعملًا حديثًا ومتطورًا لتعبئة التمور وإنتاج الحلويات، ومركزًا نسائيًّا متكاملًا للتدريب على الحاسب الآلي، ومصنعًا ومعملًا متطورًا للخياطة والتطريز وصناعة الملبوسات، ومبنى لرياض الأطفال مجهزًا بأحدث التجهيزات، بهدف تدريب وتشغيل الفتيات بالمنطقة.
كما تَبرع الراحل بإنشاء مجمع محمد الخضير التعليمي برياض الخبراء، الذي يضم جميع المراحل التعليمية (الابتدائية، المتوسطة، الثانوية) ويشغل المشروع مساحة 29.000 م2، ويتسع لعدد 1440 طالبًا.
يُذكر أن الراحل يُعد مالك مؤسسة “وقف محمد إبراهيم الخضير” منذ 2012، وشريكًا ومديرًا عامًّا بعدد من الشركات منها “مجموعة الخضير القابضة” و”شركة رواد الوطن للاستثمارات العقارية المحدودة”.
وفي عام 2020، قدّم الشيخ الخضير دعمًا لمسابقة “مدرستي” الرقمية للتعليم الإلكتروني والتعليم عن بُعد بإدارة تعليم القصيم بمبلغ نصف مليون ريال، كما قام أمير القصيم بتكريمه لتبرعه بمبلغ 600 ألف لدعم التعليم “عن بُعد” عبر توفير أجهزة لوحية للطلاب والطالبات.
رحلة بين قرنين
وأصدر الشيخ الخضير كتابه الأشهر “رحلة بين قرنين”، وهو رحلة حافلة بالمعاناة والصراع بين الأمل واليأس، مستخدمًا فيه أسلوب الرواية غير المباشرة؛ خاصة أنه في كثير من أجزاء الكتاب يتوجه بالحديث لأبنائه وأحفاده بسرد غير مباشر وكأنما يطلب منهم السير قدمًا في طريق الحياة كما سار هو دون كلل أو ملل حتى النهاية.
وقد وُلدت فكرة الكتاب نتيجة حوار أسري بين الخضير وأبنائه عن ذكريات الماضي، تَوَصل فيه الجميع إلى قرار بأهمية نشر هذه الذكريات.
وفي الكتاب، كشف “الخضير” أنه أدرك قيمة العلم عندما كان عمره 6 سنوات، وقتها لاحظ أن أحد الضيوف الذين يزورون والده في الخبراء يحظى باهتمام مضاعف، وحين سأل عن سر هذه العناية الاستثنائية بهذا الضيف تحديدًا قيل له: لأنه القاضي، فسأل الطفل، كيف أصبح كذلك، أجابوا: تعلم فصار قاضيًا.
ثم زاد اهتمامه بالتعليم حين زار عنيزة مرافقًا لأخيه علي، وهناك لفت نظره بعد صلاة الفجر مجموعة من الأطفال في مثل عمره يجلسون بطريقة منتظمة تسر الناظرين -حسب وصفه- ويدرّسهم أحد المعلمين بأسلوب جاذب ومعهم ألواح للكتابة عليها.