في صباحٍ مهيب، طوى الموت صفحةً من أنقى صفحات العلم والفتوى في المملكة والعالم الإسلامي. ارتقى إلى جوار ربه المفتي العام للمملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ، بعد مسيرة حافلة بالعطاء امتدت لما يقارب ثمانية عقود، حمل فيها همّ الدين، وأضاء للعالم طريق الهداية، وصدع بكلمة الحق من منابر العلم والفتوى.

نسب عريق وجذور في الإصلاح

ينحدر الشيخ عبدالعزيز من أسرة آل مشرف، ذات الصلة الوثيقة بالإمام محمد بن عبدالوهاب، أحد أبرز رموز الإصلاح في الجزيرة العربية. ووُلد في الرياض عام 1362هـ (1943) في بيئة علمية محضة، وكان فقدانه للبصر في سن مبكرة امتحانًا عسيرًا، لكنه حوّله إلى منحة إلهية زادت بصيرته قوة ونفاذًا، وجعلته يعيش حياة ملؤها العزم والإصرار على طلب العلم وخدمة الدين.

رحلة العلم وحفظ القرآن

حفظ القرآن الكريم وهو في الثانية عشرة، ثم واصل دراسته في معهد إمام الدعوة العلمي، قبل أن ينتقل إلى كلية الشريعة بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، حيث تخرج عام 1383هـ. وقد نهل من معين العلماء الكبار، فتتلمذ على يد الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ، واستفاد من مجالس الإمام عبدالعزيز بن باز، كما أخذ عن الشيخ عبدالعزيز المرشد والشيخ عبدالعزيز الشثري وغيرهم، حتى غدا امتدادًا أصيلًا لمدرسة علمية راسخة.

من محراب التعليم إلى مناصب الفتوى

بدأ الشيخ مسيرته العملية مُعقِّبًا في معهد إمام الدعوة عام 1384هـ، ثم اتجه للتدريس في كلية الشريعة، حيث عُيّن أستاذًا مساعدًا ثم مشاركًا، وأسهم في تدريس أجيال متلاحقة من طلبة العلم. كما أشرف على العديد من رسائل الماجستير والدكتوراه في جامعة الإمام محمد بن سعود، وجامعة أم القرى، والمعهد العالي للقضاء.

وفي عام 1407هـ، اختير عضوًا في هيئة كبار العلماء، ثم أصبح عضوًا متفرغًا في اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء عام 1412هـ. وبعد أربع سنوات، صدر أمر ملكي بتعيينه نائبًا للمفتي العام بدرجة وزير، حتى كان الموعد الفاصل عام 1420هـ، حين صدر الأمر الملكي بتعيينه مفتيًا عامًا للمملكة خلفًا للشيخ ابن باز – رحمه الله.

خطيب عرفة لأربعة عقود

ارتبط اسم الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ بموسم الحج ارتباطًا وثيقًا، فقد ألقى خطبة يوم عرفة في مسجد نمرة من عام 1402هـ وحتى 1436هـ، أي على مدى 35 عامًا متواصلة، وهو أطول سجل لخطباء عرفة في العصر الحديث. وكانت تلك الخطب محطات فاصلة يترقبها الملايين في أرجاء العالم الإسلامي، يسمعون فيها صوتًا صادقًا يدعو للتوحيد، وينهى عن الفرقة، ويوجه الأمة نحو قيم العدل والرحمة.

صوت الدعوة والإعلام

لم يكن آل الشيخ حبيس المنابر والجامعات، بل كان صوته حاضرًا في الإذاعة والتلفزيون والمحافل العلمية داخل المملكة وخارجها. وألقى محاضرات ودروسًا في شتى القضايا الشرعية، وشارك في ندوات ومؤتمرات إسلامية، فكان ممثلًا صادقًا للعلم الشرعي السعودي في المحافل العالمية.

فتاوى ومواقف خالدة

امتاز المفتي الراحل بفتاوى رصينة جمعت بين عمق الفقه ونبض الواقع. ومن أبرز مواقفه:

  • التحذير من الانشغال بوسائل التواصل الاجتماعي على حساب العلم والدين.
  • رفض تمثيل الصحابة في الأعمال الدرامية، صيانةً لمكانتهم.
  • التأكيد على إخراج زكاة الفطر طعامًا اتباعًا للسنة.
  • إصدار أحكام فقهية تخص الحج في ظل الأوبئة والظروف الصحية.
  • الدعوة إلى مواجهة الظلم والعدوان، خصوصًا في خطبه عن الأزمات الإقليمية مثل الحرب في سوريا.

مؤلفات وإرث علمي

إلى جانب الفتاوى، خلّف الشيخ الراحل شروحًا علمية على كتب أساسية مثل القواعد الأربع، وكتاب التوحيد، ولمعة الاعتقاد. كما خلّد المئات من الخطب والدروس التي أصبحت مرجعًا للدارسين والباحثين، وركيزة في بناء الجيل الجديد من طلاب العلم الشرعي.

سمات شخصية وبساطة عيش

عُرف الشيخ عبدالعزيز آل الشيخ بتواضعه الجم، وقربه من الناس، وبساطته في المعيشة رغم مكانته العلمية والوظيفية. ورغم فقدان البصر، كان قوي البصيرة، نافذ الكلمة، حاضرًا في الفتوى والموعظة، يصدع بالحق دون خوف أو تردد، مما جعل محبته راسخة في قلوب الناس.

أسرة المفتي

خلّف المفتي العام أربعة أبناء: عبدالله، ومحمد، وعمر، وعبدالرحمن، وقد حرص على تربيتهم على القيم الإسلامية والاعتدال، شأنه شأن العلماء المصلحين الذين يورثون العلم والأخلاق قبل أي إرث آخر.

الوفاة ومراسم العزاء

انتقل الشيخ إلى رحمة الله صباح الثلاثاء 1 ربيع الآخر 1447هـ (23 سبتمبر 2025). وسيصلي عليه بعد صلاة العصر في جامع الإمام تركي بن عبدالله بالرياض، فيما وجّه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز – حفظه الله – بإقامة صلاة الغائب عليه في المسجد الحرام والمسجد النبوي وجميع مساجد المملكة، لتتردد أدعية الملايين في مشهد يليق بمكانة رجلٍ أفنى حياته في خدمة دينه ووطنه.

إرث خالد وذاكرة لا تمحى

برحيل سماحة المفتي، يفقد العالم الإسلامي مرجعًا علميًا فريدًا، ورجلًا قضى حياته بين المحراب والمنبر، بين الفتوى والدرس، بين القول والعمل. لكن إرثه باقٍ: فتواه في مسائل الدين، خطبته في عرفة، دروسه في التوحيد، ومواقفه في نصرة المظلومين. سيظل ذلك الإرث حيًا في ذاكرة الأمة، كمنارة تهدي الأجيال، وشاهدة على أن العلماء لا يرحلون بموت أجسادهم، بل تبقى آثارهم تنبض بالحياة.

أخبار ذات صلة

 

شاركها.
اترك تعليقاً