أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور عبدالرحمن بن عبدالعزيز السديس بتقوى الله والحذر من سوء العقْبَى والرَّدى، واجتناب الغفلات فإنها للطاعات مُدَى، والسعي للآخرة فإنها غَدَا ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾.
وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم بالمسجد الحرام: تماسك المجتمعات واستقرارها، وتلاحُم أفرادِها وأطيافِها، أمام الأزمات والتحديات، والتصدعات والانقسامات، مطلبُ أولي النُّهَى والطموحات، ومن استكنه ثَمَدَ التاريخ ودُرُوسَه، وسَبَرَ أغواره وطُرُوسه، أَلْفَى بين جَمَاهِرِ الأقوال ومضارب الأمثال حقيقةً شاخصة، زاخرة غير ناقصة، وهي أنه لا تخلو أمةٌ من الأمم من متربص حاسد، أو عدو حاقد، فذلك سنن لاحب، أزليٌّ ثاقب، من شواهده عداوة إبليس لأبينا آدم، وما عاناه الأنبياء مع أقوامهم، ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا﴾، وهكذا إلى قيام الساعة، وكلَّما سَمَق الحق وازداد تلألؤًا واتضاحًا، ازداد الباطل ضراوة وافتضاحًا، وهكذا بعد المحن المطوِّحة، والصروفِ الدُّهم المصوِّحة، يذهب النور بذيول أهل الفجور، ﴿يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾.
وأكد “السديس” أن استهداف الدين والأوطان والمجتمعات سُنَّة من سنن الله الكونية، وكما لم تسلم القرون السالفة من نزغات الشياطين والمفسدين والمضلين، حيث استهدفت العقائد، إذ مدت ضروب الإشراك فسطاطها، ونشرت ضد التوحيد والسنة رواقها، أخرج الإمام مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “إن الله سبحانه يقول: وإنِّي خلقتُ عبادي حُنَفَاءَ كلَّهم، وإنهم أتتهم الشياطينُ فاجْتالتْهم عن دينِهم، وأمرَتْهم أن يُشركوا بي ما لَم أُنْزِل به سُلطانًا”، وسبحان الله عباد الله وما أشبه الليلة بالبارحة، فإن فئاما من الخوالف ساروا على درب أسلافهم ممن قصرت أفهامهم، وطاشت أحلامهم، قد نعب الشيطان في آذانهم فاستجابوا لدعائه، وحَسَّن لهم إسخاط سلطانهم فأسرعوا إلى ندائه.
وأضاف: الدعوات المغرضة التي تستهدف المجتمعَات الإسلامية، ليس وراءها إلا هدمها وتفكُّكها وإخلالُ أمنها واستقرارها، والمصطلحات والمفاهيم الشرعية التي يستخدمها بعض هؤلاء لجر المجتمعات إلى الويلات باتت واضحة مكشوفة الأهداف لكل ذي عينين، ولا تزال أفعالهم الباطلة الرَّديئة، وأقوالُهم المنمَّقةُ الوبيئة، تفضح مكنون ضمائرهم، وتكشف مضمون سرائرهم؛ لأن بعضهم اتخذوا الدِّين لِرَخيص مآربهم مطية وذريعة، ومَسْلَكا لأهوائهم الطَّامعة الشَّنيعة والتضليل والخديعة، وهنا تكمن خطورة استهداف الأوطان والمجتمعات على الدين بصرفه عن الاعتدال والوسطية، وجميل القيم الإسلامية السامية، وعظيم الأخلاق الشرعية الراقية، الداعية إلى التراحم والتسامح ليس بين أبناء الدين الإسلامي فحسب بل بين جميع أفراد الإنسانية، فالاستهداف تحد واستنزاف وحسد واستخفاف وزيغ وانحراف وكيد وإجحاف وبلبلة وإرجاف وبعد عن الوئام والإيلاف، فيا أيها اللبيب الأريب ارفع وعيك وخذ حذرك من خطر المستهدف وإن كنت أنت المستهدف فليس يخلو المرء من ضد ولو حاول العزلة في رأس جبل.
وأردف: لا تقف خطورة استهداف الأوطان والمجتمعات على الانحراف في فهم التعاليم الشرعية فحسب؛ بل تتعداها إلى الفكر والتطبيق وهنا يكمن الخطر المحدق بالمجتمع خاصة أمنه وشبابه، فحينما تتعمق الأفكار المتطرفة والمنحلَّة في نفوس هذه الفئام تتحول إلى جرائم تهدد الأوطان وتنذر بخراب الديار، وتجعل منهم وقودا للانحلال والإرهاب، وقوة غاشمة للفساد والإرعاب، وتعمل على زعزعة الأمن وخلخلة النسيج الاجتماعي المتميز، مما يهدد وحدة الأمة، ويبث فيها الفرقة والانقسام إلى أحزاب ضالة وجماعات منحرفة وتنظيمات مشبوهة تعمل على إثارة الفتنة وإذكاء النعرات والعصبيات والتحريش والبلبلة والتشويش، وذلك استهداف للمجتمعات في أعز مقوماتها وهي وحدتها وتضامنها، أخرج الإمام مسلم من حديث جابر بن عبدالله –رضي الله عنهما- أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: “إنَّ الشيطانَ قدْ أَيِسَ أن يعبدَه المصلُّون فِي جزِيرة العرَب، ولكنْ في التحريشِ بينهُم”.
وأوضح خطيب الحرم المكي أن من عجائب الأمور، ومما يحار فيه ذوو العقول، أن يوجِّه أصحابُ السهامِ المسمومة، والأنفسِ الضيقة المحمومة، سهامهم المشئومة إلى دُرة الأوطان ومهبط الوحي ومأرز الإيمان، بلاد الحرمين الشريفين، بلاد التوحيد والوحدة والقرآن والسنة، التي جعلها الله مثابة للناس وأمنا وقبلة. فيبثون فيها أفكارهم، وينشرون فيها سمومهم؛ من المخدرات والمؤثرات العقلية، فلا تزال مادة الشبو ومثيلاتها الخبيثة تشبو، ولاستهداف العقول تنبو وتربو، ولكنها بفضل الله ثم بالوعي والردع ستكبو وتخبو. فالمملكة حرسها الله أعلنت عن الحملة الوطنية والأمنية للحرب على المخدرات ومروجيها مما يؤكد على الجميع التفاعل والتفعيل لهذه الحملة المباركة، وأطلقت حملة “بالمرصاد”، وليست هذه المرة الأولى التي تُطلق فيها المملكة حَرْبًا ضروسًا ضد المخدرات، بل إنها عمدت على مر السنين إلى مواجهة هذه الآفة الخطيرة لحماية المجتمع وأبنائه من الاستهداف بتلك المواد السامة التي تفتك بالعقل وتقضي على حياة الإنسان، وواجبنا التعاون مع الجهات الأمنية بالإبلاغ عن مروجي المخدرات ومهربيها.
وقال: ويشمل الاستهداف استهداف الدين والأنفس والعقول والأعراض والأموال ومنه ضروب الافتراء على البرءاء بقذفهم والنيل من أعراضهم ونشر خصوصياتهم وتضخيم هناتهم وطمس حسناتهم ومنه صور الابتزاز والاستغلال، ومنه الاحتيالات المالية عبر المنصات والرسائل الوهمية بدعوى الثراء السريع والتستر التجاري والمساهمات الوهمية واستهداف أموال الناس والاحتيال عليهم، بشتى الوسائل الاعتيادية والرقمية وكذا الاختراقات الإلكترونية.
وبيّن “السديس” أن أخطر أنواع الاستهداف الاستهداف الاستراتيجي المؤدلج الممنهج ضد الرموز والقدوات في محاولة إسقاط مكشوفة، وهز للثقة بهم مفضوحة، فيا أيها المبارك الموفق وأمام الاستهدافات ارفع وعيك، وخذ حذرك من خطر المستهدف وإن كنت أنت المستهدف، وأبشر فأصحاب الحق محفوظون منصورون، والأعداء الشانئون مبتورون مدحورون، ﴿وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ﴾، ﴿وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾.
ودعا شباب الأمة إلى أن يدركوا أبعاد هذه الاستهدافات الخطرة، وأن يحصّنوا أفكارهم ضد المؤثرات العقدية والفكرية والسلوكية، وألا يكونوا ميدانًا خصبًا لها أو سببًا في انتشارها، وأن يقفوا في الأحداث عن علم وبصيرة، معتصمين بالكتاب والسنة على منهج سلف الأمة رحمهم الله، وهنا يؤكد دور الأسرة والبيت والمدرسة والجامع والجامعة.
كما دعا خطيب الحرم المكي القائمين على وسائل الإعلام ومواقع التواصل إلى الوعي بخطورة الاستهداف لدينكم وأوطانكم، لا تكونوا بَوْقًا للمرجفين المخذلين المستهدفين، ولتحرصوا على وأد الفتن في مهدها واجتثاثِها من أصولها وتجفيفِ منابعها، لاسيما في أوقات الأزمات، وعدمِ التهويل والإثارة والمبالغة في التعليقات والأطروحات وبث الشائعات، وإيجادِ صيغة علمية، وآلية عملية للحوار الحضاري، ونشر القيم القويمة، والفضيلة المؤتَلِقة.
وواصل إمام وخطيب المسجد الحرام يقول: أمة الإسلام وأمام تلك الصيحات الناعبات؛ فإن الواجب الوقوفُ صفًا واحدًا في وجه كلِّ من يحاول شَقَّ الصَّفِّ وإحداثَ الفُرقة والخلل، فإننا نرى العالم من حولنا إلى أين وصل به الحال؛ حيث تغمره أمواج الفتن، ويعاني إخواننا في بقاعٍ شَتَّى صنوفا من الصراعات والأزمات، والنيل من المكتسبات والمقدرات، والتعدي على الحقوق والمقدسات، وبعد أيها المسلمون فلم يعد خافيًا على ذوي البصائر أننا مستهدفون في ديننا وقيمنا وأوطاننا ومجتمعاتنا وأمننا واستقرارنا، ولكن مع خطورة الاستهدافات يجب أن تعيش المجتمعات الوعي والثقة والصبر والإصرار والتلاحم والتفاؤل والبشائر والآمال، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ، فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لم يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾.
ومضى فضيلته يقول: أمة الإسلام وفي هذه الأيام المباركة تشرئب الأعناق، وتنجذب القلوب من جميع الآفاق، حيث قوافل حُجاج بيت الله الحرام ومواكب الحجيج تؤم هذه البقاع الشريفة، التي هيأها الله لعباده، واختارها لتكون محلا للمناسك، فأهلا ومرحبًا بك أيها الناسك، في خير البقاع وأشرف المسالك، وهاهي طلائع ضيوف الرحمن تشرّف هذه البقاع المشرفة فحللتم أهلًا ووطئتم سهلًا.
وختم إمام وخطيب المسجد الحرام بالقول: إن مِنْ غُرَرِ المكَارِمِ والخِلال المكتَنِزَةِ برَواجح الفِعَال، ما تَطرَّزَت به المشَاعِر المقَدَّسَةِ عُمُومًا والحرَمَيْنِ الشَّرِيفَينِ خُصُوصًا بالاهتمام الغَامر مِنْ لَدُنْ وُلاةِ الأَمْرِ في هذه البلاد المبارَكَة، ومُضَاعَفَة منظُومَةِ الخدمات، وتسخِير كل الموارد والإمكَانِيَّاتِ، كما أنَّ مَنْظُومة الخَدَمَاتِ المتكاملة هذه لرحمةٌ للحُجَّاج والعُمَّار والزُّوَّار من قاصدي بيت الله الحرام ومسجدِ رَسُولِ الله عليه أفْضَلُ صَلاةٍ وأزكى سَلام، وما الرواق السعودي إلا نموذج مشرف لريادة هذه البلاد المباركة في إعمار وخدمة الحرمين الشريفين وضيوف الرحمن، فجزى الله قادة هذه البلاد المباركة خير الجزاء على تلك الجهود المسَدَّدة في خدمة الحرمين الشريفين، وخدمة قاصديهما، وليحذر القاصدون لها من استهداف أمنها ونظامها العام بأي نوع من المخالفات والحملات الوهمية ضد تعاليمها الشرعية والنظامية، اللهم زد بيتك هذا تعظيمًا وتشريفًا وتكريمًا ومهابةً، وزد من عظّمه وشرفه ومن حجه واعتمره تعظيمًا وتشريفًا وتكريمًا ومهابة وبِرًا، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم:﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدىً لِلْعَالَمِينَ، فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ﴾.