• أدباؤنا وعلماؤنا تميزوا في تحقيق نصوص التراث العربي وعلى رأسه الشعر فصارت صورة الحياة الشعرية العربية بارزة أمامنا وممثلة لكل العصور
  • د. محمد مندور ود. إحسان عباس والعلامة محمود شاكر ألفوا تاريخاً لفن الشعر العربي وتحقيقاً للقصائد البديعة لكبار الشعراء في العصر الإسلامي
  • «حلب» قدمت لنا الشاعر المرموق أبا الطيب المتنبي بقصيدة من أروع قصائد الشعر العربي وتشكّل مهرجاناً معبراً عن الفرح والاطمئنان والإحساس بالأمان
  • قصيدة المتنبي إلى سيف الدولة حفلت برقة الألفاظ ووضوحها وتميزت بموسيقى شعرية أخّاذة في تسلسل ملحوظ بما يمكن وصفه بالعمل الفريد
  • الشاعر المرموق ملكت عليه «حلب» كيانه بعد رحلة الترحال إلى مصر والكوفة وأكد أنه لا مقام له إلا في الديار التي يحبها ويحب أهلها
  • لا تزال «حلب» كما كانت في الماضي تحتضن أهاليها الأكارم وترفض كلّ طارئ شر عليها وتزهو بدور العلم وكوكبة رجاله ومبدعيه

بقلم:د. يعقوب يوسف الغنيم

يدور ذكر «حلب» على ألسنة الناس في هذه الأيام كثيرا، وذلك بسبب التغييرات المهمة التي حدثت في سورية كلها وبدت آثارها واضحة في مدينة حلب. تقع هذه المدينة في الشمال الغربي لسورية على بعد 310 كيلومترات عن دمشق، وهي أكبر مدن الشام، تحيط بها مجموعة من المدن أُطلق عليها – مجتمعة – اسم: محافظة حلب.

وكانت قمة ازدهار حلب وما جاورها قد جرت في الفترة التي حكم فيها سيف الدولة الحمداني هذا الجزء من سورية، وهي ما بين سنتي 945م و966م، وكان له دور كبير في الدفاع عن البلاد كلها ضد الدولة البيزنطية التي كانت تهدد بالتوسع في المنطقة. ومن أجل ذلك، فإن ذكر حلب يذكر بالحمدانيين، وأميرهم الأشهر سيف الدولة الحمداني.

ويذكر – كذلك – بالشاعر أبي الطيب المتنبي الذي ارتبط بهذا الأمير فترة من الزمن، وقدم له روائع شعره. ونحن هنا في حالة استماع إلى صدى قديم من أصداء حلب، يتمثل بالشعر الذي قاله المتنبي في ذلك الزمان، ولكننا قبل أن نتحدث عن هذا الموضوع سنعرض إلى الحديث عن الشعر وما إليه تمهيدا لما سنطرحه من مثال اخترناه من شعر المتنبي.

إن الشعر من فنون المعرفة، أو التعبير عن الذات بصفة خاصة. يقول الباحثون في مسائل نقد الشعر وبحث الأغراض الفنية التي يعبر عنها: إن الشعر فن من فنون القول المغرقة في القدم، وقد اهتم الأدباء العرب المحدثون بالكتابة عن الشعر من حيث تاريخه، وصفاته وأغراضه على مر العصور، بمثل ما اهتم به عدد آخر من بحث في الشعر العربي من عدة جوانب.

وقد اهتم عدد آخر من أدباء الغرب بالشعر العربي، وبشعرهم هم بطبيعة الحال. وكان لهم دور كبير في طباعة الدواوين الشعرية العربية التي سبقوا إليها من حيث الطباعة والتحقيق.

وذلك إلى أن تميز عدد كبير من الأدباء والعلماء العرب في مجال تحقيق نصوص التراث العربي، ومنه: الشعر، فصارت صورة الحياة الشعرية العربية بارزة أمامنا أتم بروز، ممثلة لكل العصور التي مرت بالشعر منذ قاله أوائل العرب إلى حين عصر التدوين. ولقد استوفى الناقد د.محمد مندور الحديث عن فن الشعر في كتابه الذي يحمل هذا الاسم، وحاول أن يدرس تاريخ هذا الفن وفنونه، فجاء كتابه شاملا لكل ما يحتاج إليه القارئ الراغب في معرفة شاملة بالشعر من حيث تاريخه وفنونه.

يقول د.مندور في مقدمة كتابه المطبوع في سنة 1952م: «لم يعد الحديث عن الأدب عامة، والشعر خاصة من البساطة واليسر على نحو ما كان عند أجدادنا السابقين من العرب، بل أصبح من العجز أن نردد اليوم في محاولة تعريفنا للأدب وفنونه، أمثال تلك التعاريف الساذجة التي كان يرددها أجدادنا مثل قولهم: «إن الأدب هو الإلمام من كل شيء بطرف، وقولهم: «إن الشعر هو الكلام الموزون المقفّى».

بعد أن أصبحت الثقافات العالمية تعج اليوم بمختلف الفلسفات الجمالية ومذاهب الأدب والفن، حتى أصبح لزاما علينا أن نعيد فهمنا للأدب عامة والشعر خاصة على ضوء تلك الثقافات العالمية حتى لا نظل متخلفين عن ركب الإنسانية العام».

ثم وجدنا عالما آخر يكتب كتابا في هذا الشأن المهم، وقد تزامن صدور الكتابين، واتفقا في العنوان، هذا الكاتب هو د.إحسان عباس. وفي مقدمة كتابه نعرف مدى انشغاله بموضوع الشعر، وفي صلب الكتاب نعرف أنه قد قام بأعمال أخرى بحثية وتطبيقية تتعلق بهذا الموضوع من عدة جوانبه، ولقد كان متواضعا – كما هو طبعه الذي أعرفه عنه – إذ عرض كتابه من خلال المقدمة التي عبرت عن محتواه بقوله: «إن الذين يعرفون «أبجدية الفن الشعري»، ويرفعون أصواتهم بتهجئتها، يستطيعون أن يطمئنوا إلى أن هذا الكتاب لم يُكتب لهم، لأنه لا يعدو أن يكون مبادئ أولية في تاريخ النظرية الشعرية وبعض الموضوعات المتصلة بها، ومحاولة مبسطة في طريقة النظر إلى القصيدة، وإجراء بعض الأحكام النقدية عليها». ومع ذلك، فإن هذا الكتاب قدم المعلومات المتعلقة بالشعر وأنواعه، وأساليب نقده في عرض شامل للنظريات الأدبية المعروفة ذات الصلة بالشعر.

أما ما يلفت النظر في أمثال هذه الدراسات، فهو ما قدمه شيخنا الأستاذ محمود محمد شاكر في كتابه: «نمط صعب.. ونمط مخيف»، وكان أصل هذا الكتاب سبع مقالات نشرتها مجلة «المجلة» المصرية، حين كان رئيس تحريرها الأستاذ يحيى حقي. يتناول الكتاب دراسة فنية لقصيدة الشاعر الجاهلي تأبط شراً التي كان مطلعها:

إن بالشعب الذي دون سلع

لفتيلا دمُه ما يُطَل

وذلك من كل الوجوه بما في ذلك إعادة ترتيبها بعد دراسة عميقة لها، رجع الأستاذ خلالها إلى نصوصها المكتوبة في عدد كبير من المراجع العربية، وانتهى به الأمر إلى وضع هذه القصيدة في إطارها الذي أنشأها الشاعر بموجبه، فأثبت ترتيبها وفقا لتسلسل المعاني الشعرية، مستأنسا بما ورد للقصيدة من روايات دون أن ينسى أهمية التذوق الفني في هذا المجال. وقد وردت في مقدمة الكتاب عبارات توضح أمورا حرص على التنويه بها قبل أن يبدأ في طرح الموضوع. وبما أن هذه العبارات جامعة لكثير من الأمور، وذات دلالة على ما نريد طرحه في هذا المقال، فإن من المهم أن تقدمها هنا لكي نستخرج منها ما يدلنا على ما نريد معرفته، يقول: «هذا كلام بعيد العهد، كنت كتبته استجابة لهوى صديق قديم، هو أخي يحيى حقي، رحمه الله، وهو ما يتصل بقصيدة تأبط شرا:

إن بالشعب الذي دون سلع …

وما أورده من أسئلة تتعلق بهذه القصيدة المنسوبة إلى تأبط شرا، وبعض هذه الأسئلة يتعلق بترتيب أبيات القصيدة، الذي اقترحه الشاعر الألماني جوته، حين ترجم القصيدة إلى الألمانية، وبعضها يتعلق بالشعر القديم وروايته عامة، ثم ما بناه بعضهم على ذلك من افتقار القصيدة العربية إلى الوحدة».

ومن الواضح أن ترجمة الشاعر الألماني الكبير جوته لقصيدة تأبط شرا كانت مدار حديث بين الصديقين الحميمين، وقد تناول الحديث بينهما مسألة رواية الشعر العربي القديم، مع ذكر ما بناه البعض على مسألة رواية الشعر من قول مؤداه أن القصيدة العربية تفتقر إلى الوحدة. يعني أنها قصيدة مشتتة المعاني لا تتسلسل مدلولاتها بحسب ما هو في تفكير الشاعر.

ومن هنا نستدل على أن المقالات السبع التي يضمها الكتاب كانت تصحيحا للفكرة التي تبناها البعض في تصورهم لشكل القصيدة العربية، وهذا هو ما دفع أستاذنا إلى الكتابة عن هذه القصيدة، لأنها قد تعرضت إلى كثير من التشويه، لكثرة من رواها من الرواة دون أن يكون لها أثر مكتوب عندما نظمها الشاعر.

لقد كان يهدف في مقالاته إلى تقديم مثل يدل دلالة واضحة على وحدة القصيدة العربية، وبما له من تمكن في مثل هذا البحث، فقد أوضح لنا أن قصيدة تأبط شر التي دار حولها كتابه ذات وحدة تجمعها، ولكن الرواة كانت تنقصهم الدقة في وقت لم تكن فيه رواية الشعر تعتمد على الكتابة، فصار بعض ما وردنا منه في حاجة إلى النظر عن طريق مقارنة الروايات والفهم الصحيح لما يريده الشاعر لكي يتم التوصل إلى المعنى العام للقصيدة. وهذا هو ما فعله الأستاذ محمود محمد شاكر مع قصيدة تأبط شرا.

٭ ٭ ٭

مرت على القصيدة التي ذكرناها عدة قرون منذ أن سمعها الناس من فم قائلها: تأبط شرا، وتغيرت ظروف كثيرة كان من أهمها انتشار الكتابة، وظهور علماء في اللغة والأدب نثرا وشعرا، وانتشر الحرص على جمع الشعر وكتابته، واستقام الأمر لشعراء الدولة الإسلامية فجاءنا شعرهم كاملا أو شبه كامل، ووجدنا فيه روح الشعر القديم مع مسحة من سماحة الإسلام، وفنون من فنون المعرفة التي سادت عصر الشعراء الإسلاميين.

٭ ٭ ٭

ومن هنا نعود إلى ما بدأنا به، فها هي مدينة حلب تقدم لنا الشاعر أبا الطيب المتنبي، فنرى من بين قصائده الرائعة قصيدة هي مثال الانتظام في المعاني، وتدرج العرض للموضوع بحيث كونت وحدة فنية متكاملة.

كانت للمتنبي إبان حياته مكانة مرموقة في دنيا الشعر، وكان الرؤساء والأمراء يقربونه، ويمنحونه هداياهم الثمينة، وقد جلب إليه ذلك حسد الحاسدين، فناصبوه العداء لمجرد أنه فاقهم مكانة ومقدرة شعرية. ولقد طبع ديوان شعره مرارا، وشرحه ناصف اليازجي تحت عنوان: «العرف الطيب، في شرح ديوان أبي الطيب»، وورد ذكره في جميع الكتب التي تناولت معلومات عن الأدباء والشعراء.

وكتب عنه استأذنا محمود محمد شاكر مقالة استغرقت العدد الأول من مجلة المقتطف بكامله، وكان صدور هذا العدد في سنة 1936م، ثم قام بقراءته مجددا مضيفا إليه معلومات مهمة عن أبي الطيب ونشره مستقلا. واحتفلت مدينة حلب السورية عاصمة سيف الدولة الحمداني في سنة 1935م بالشاعر اللبناني بشارة الخوري (الأخطل الصغير)، فلم ير بدا من التنويه بالمتنبي وممدوحه سيف الدولة، فألقى قصيدة رائعة في الحفل.

وقد وردت هذه القصيدة بتمامها في ديوان هذا الشاعر المنشور في سنة 1998م لدى مؤسسة جائزة عبدالعزيز سعود البابطين في الكويت. ولد أبو الطيب المتنبي في مدينة الكوفة سنة 303هـ – 933م، واسمه أحمد بن الحسين بن عبدالصمد الجعفي، وهو عربي صريح النسب، وإن حاول منافسوه إثبات غير ذلك.

عاش في حلب منذ سنة 337 هـ، حتى سنة 345هـ (948م-956م)

وكان في كل هذا الزمن حاضرا مجلس سيف الدولة الحمداني، مادحا له، واصفا لمعاركه التي لم تكن تهدأ في ذلك الوقت. وكان قلب سيف الدولة آخر الأمر قد تغير على شاعره نتيجة للنكايات التي دبرها بعض جلسائه، فلم يبق هذا العربي الصميم على الضيم، فغادر المكان إلى مصر حيث استقبله حاكمها – آنذاك – كافور الإخشيدي – ولكن أبا الطيب لم يجد الراحة في مصر، خاصة أن قلبه كان متعلقا بسيف الدولة الذي كان يكرمه ويرعاه قبل أن يتغير عليه بسبب كيد الحاسدين كما مر بنا.

غادر المتنبي مصر إلى الكوفة، وكان بها حزينا لأنه فقد ما كان يرجوه من طرفين كانا من أقوى حكام ذلك الزمان. وكان المتنبي في هذه المرحلة كثير التفكير بسيف الدولة يتذكر أيامه معه، وما كان يقابله به من الود والتقدير. بقي أياما في الكوفة كان يتجرع خلالها الحسرة على ما فاته، مع التساؤل عند الوسيلة التي تمكنه من أن يعود إلى حلب حيث صاحبه الأول. وفي هذا الجو الكئيب أطل عليه سيف الدولة من جديد، فقد علم بما جرى له في مصر، وبانتقاله إلى مقره الأخير.

وكان من الواضح أن الأمير الحمداني كان على علم بكل الخطوات التي خطاها شاعره، ويبدو أنه قد راجع نفسه، ووجد أنه لا شاعر يستطيع أن يقوم بمثل ما قام به هذا الشاعر من حيث كونه صوتا عاليا يشيد بكل ما كان الأمير يقوم به من أعمال. ومن أجل ذلك، فقد قرر أن يقوم بتعويضه عما بدر منه تجاهه، فأرسل إليه ابنه من حلب إلى حيث كان مقيما، ومعه هدية تليق بالمهدى والمهدى إليه، وكان ذلك في سنة 352هـ – 963م.

وقد كانت مبادرة هزت المتنبي من الأعماق، لأنه رأى أن سيف الدولة لم يكتف بإرسال هديته مع عامل من عماله، ولكنه جعل رسوله إليه ابنه، وهذه خصوصية قلما تمنحها الملوك لأحد، وبذلك أيقن بأن مكانته لا تزال قائمة كما كانت.

بل أيقن أن هذا الأمير كان يتتبع أخباره منذ غادره في ذلك اليوم الذي فرق بينهما فيه المغرضون، وكان هذا شعورا متبادلا بين الاثنين حتى في أثناء افتراقهما، وتكفي للدلالة على تلك الأحاسيس التي غمرت المتنبي في تلك اللحظات: القصيدة التي قالها أبو الطيب وهو يغادر ديار سيف الدولة، وكان من ضمنها بيت له أعمق الدلالة على مشاعر قائله، وهو:

يا من يعز علينا أن نفارقهم

وجداننا، كل شيء بعدكم عدم

ونتيجة لهذا الانفعال الشديد الذي سيطر على الشاعر بعد أن رأى ما قام به ممدوحه تجاهه أن أبدع قصيدة من أروع قصائد الشعر العربي. تكاد تكون في حد ذاتها – مهرجانا معبرا عن الفرح والاطمئنان، والإحساس بالأمان.

تتكون هذه القصيدة من ثلاثة وأربعين بيتا صاغها بحيث لا يستطيع القارئ أن يتوقف عند أي فقرة من فقراتها، فكأن القصيدة كلها فقرة واحدة ممتدة، تأخذ بلب القارئ، وتمنحه متعة لا تقدر.ولقد أجاد فيها التعبير عن المفاجأة السارة التي تلقاها من الأمير، وابتدأ باستفتاح للقصيدة في صورة مخالفة عن أساليب الغزل في قصائد من سبقه من الشعراء.

ثم انتقل سريعا إلى الموضوع.ومن أجل ذلك، فإني أكاد أقول إن المتنبي في قصيدته هذه قد قدم عملا فريدا سابقا به غيره من الشعراء، وذلك لما نراه في أبياتها من ترابط يأخذ بعضها ببعض في تسلسل ملحوظ، إضافة إلى وضوح الألفاظ ورقتها، وتميز القول بموسيقى شعرية أخاذة، حتى صارت رائعة الوقع في النفوس، دالة على قوة انفعاله بالحدث الذي أدى به إلى إبداعها.

تزدان القصيدة بمطلع جميل فيه غزل من نوع مختلف كما ذكرت قبل قليل، فهو لا يوم يسوق غزله إلى من يحب إلا بعد أن يشكو ما حدث له مع الرسول الذي أرسله برسالة إلى من يحب، ويتحدث عن هذا الأمر مع الرسول بروح غير عدوانية، لأننا لا نرى في حديثه ما يدل على غضب أو ضجر، وكأنه يعذره على ما فعل، ولذلك نراه يقول:

ما لنا كلنا جَوٍ يا رسول

أنا أهوى وقليلك المتبول

يريد أن يعرف كنه الحال التي صارا إليها، فهما الآن شريكان في هوى واحد، ثم يصف الموقف قائلا:

كلما عاد من بعثت إليها

غار مني وخان فما يقول

وكل ذلك بسبب جلي هو:

أفسدت بيننا الأمانات عينا

ها، وخانت قلوبهن العقول

ويعجب لصاحبه الذي صار يشكو همه الذي ركبه بسبب تعلقه بتلك المحبوبة المشتركة فيقول له:

تشتكي ما اشتكيت من ألم الشو

ق، إليها، والشوق حيث النحول

وإذا خامر الهوى قلب صب

فعليه لكل عين دليل

إذن، فهو يعلن أنه – أي الشاعر – هو المحب الحقيقي الذي تظهر على جسده آثار ذلك. أما هذا الشاكي فليس في جسمه دليل على الوجد الحقيقي. ودون أن نشعر باضطراب السياق، ترى الشاعر يتحدث – بعد ذلك إلى الحبيبة مباشرة قائلا (وهذا مستغرب):

زودينا من حسن وجهك مادا

م فحسن الوجوه حال تحول

وموضع الاستغراب أنه يتحدث إليها بصيغة الجمع، وهو مفرد، وهذا دليل على تسامحه مع رسوله، وقبول عذره، لأنه لم يقل لها: زوديني، بل قال زودينا. وتابع قائلا:

وصلينا نصلك في هذه الدنـ

يا فإن المقام فيها قليل

واصفا هذه الدنيا بأن المقيم بها يعلم – دائما – أنه على وشك الرحيل عنها، ويرى أن في أهلها أناسا في طريقهم إلى مغادرتها. ويقول: أما أنا فإنك إن كنت قد رأيت بياضي قد تحول إلى السمرة وشاهدت جسمي قد ضمر، فأنا كالرمح المستعمل في الحروب، يستحسن فيه أن يكون ضامرا، وأنا بما أقوم به من أسفار بدلتني الشمس المصاحبة لي في رحلاتي عبر الفلوات، وهذه عادة لها معي ومع غيري ولست – والحديث موجه للفتاة – مثلي في ذلك، فقد سترتك الستور عنها، وأبعدت تأثيرها فيك، وإن كنت قد أخذت منها سوادا في شفتيك (اللَّمى) الذي يعتبر صفة من صفات جمال الشفاه الأنثوية. ويضيف: وأنت – على كل حال – مثل هذه الشمس كلاكما أضناني وعنك أقول:

مثلها أنت لوَّحتْني واسقمـ

ـت، وزادت أبهاكما العُطبول

ومن هنا يمضي في حكايته لحالة الترحال التي اعتادها لكي يصل بنا – فجأة – إلى ما يريد، وهو حلب ومشاهدة من فيها. فيقول: هذه رحلة من رحلاتي التي كنت أتساءل خلال قيامي أنا وصحبي بها عن طول الطريق وقصره، وهل هو طويل في الحقيقة أم صار طويلا في أعيننا، وهو ما يبدو لنا على امتداد السير.

ولكننا أدرى من غيرنا بطريقنا، وقد سلكناه مرارا، يدفعنا الشوق إلى من نحن راحلون إليه، أو الرغبة في تعليل النفس، وحثها على الصبر. ويتسلل من هنا إلى موضوع القصيدة، وهو سيف الدولة الحمداني ومساكنه في حلب وما حولها، وكأنه يقول إن الرحلة التي وصفتها إنما كانت إلى هذا الاتجاه. وهذا الطريق إلى المكان الذي صرح بأنه طريق مألوف له فهو يعرف سكانه وهم يعرفونه ولذا فإنه:

كلما رحبت بنا الأرض قلنا

حلب قصدنا وأنت السبيل

لا مقام لنا إلا في الديار التي نحبها ونحب أهلها. أما حلب فيقول لها:

فيك مرعى جيادنا والمطايا

وإليها وجيفنا والذميل

والمسمون بالأمير كثير

والأمير الذي بها المأمول

الذي زلت عنه شرقا وغربا

ونداه مُقابلي ما يزول

ومعي أينما سلكت كأني

كل وجه له بوجهي كفيل

هذا الأمير هو الذي اندفع المتنبي إلى ذكره، بعد ذلك الصنيع العجيب الذي دل على الفضل، وعلو المكانة، وهو الموقف الذي أشرنا إليه في البداية.

فالشاعر هنا يعرب عن يقينه بأن سيف الدولة يعرف عنه كل شيء وإلى أي اتجاه اتجه، يوافيه بمكارمه حتى ولو كان بعيدا عنه. فهو يقول ضمن الأبيات المتقدمة: إن هذا الأمير المأمول هو الذي اتجهت عنه شرقا وغربا، وبعدت عن موقعه، فلم ينسني بكرمه، وهو يلاحقني بهذا الكرم إلى كل وجهة أتجه إليها، فأحس بأنه معي دائما في كل مسلك أسلكه، وكأنه يراني في كل مكان أحل به، وهو لا يحب العذل في البذل، ولا يريد من أحد أن يزين له إمساك يده عن الكرم. ففداه كل عازل وكل معزول يأخذ بما يقول له العازلون ثم يقول:

ولا أكتفي بذلك فإني أضع في فداه إلى جانب العذول كل من كان حوله من الناس والأنعام ووسائل الحروب، وهي كلها:

كلما صبحت ديار عدو

قال تلك الغيوث، تلك السيول

ومن هنا يتحدث المتنبي عن معارك ممدوحه، وتشتعل في شعره المعركة التي تهتك الدروع فتتطاير أجزاؤها كريش الطائر حين يتناثر. أما فيما عدا ذلك، فالشاعر يرى هذا الأمير رجلا جليل القدر يكون الزمان معه صحيحا إذا صح، وعليلا إذا اعتل، وهو حاضر في كل وقت، فكأنه لم يقم من مكانه، لأن كرمه، وطيب أصله – كلاهما – يدلان على وجهه الكريم الذي يراه الناس حتى في حال غيبته عنهم، ولذا فهو كما قال عنه:

ليس إلاك يا علي همام

سيفه دون عرضه مسلول

ومنذ هذا البيت يبدأ المتنبي بالحديث عن المواقف الحربية التي شهدها سيف الدولة، وعن حال أعدائه المنكسرين حين يقارن بين الطرفين فيقول:

ما الذي عنده تدار المنايا

كالذي عنده تدار الشمول

(الشمول: هي الخمر). ويأتي الشاعر إلى النهاية فيذكر أن البعد عن ممدوحه قد نغص عليه السعادة بلقائه، وبالحصول على هداياه الثمينة، وان كانت الهدايا تأتي إليه في كل مكان حل به.

ولكنه يقول: إنه قد قر في باله أن أي عطاء يرد إليه، لا يمكنه أن يكون إلا من سيف الدولة، فإن عطاءه يسري إليه مهما بعدت به الديار، ومهما غاب عن مجلسه. ويوجه – أخيرا – حديثه إلى الأمير قائلا:

إن تبوأت غير دنياي دارا

وأتاني نيل فأنت المُنيل

من عبيدي إن عشت لي ألف كافـ

ور، ولي من نداك ريف ونيل

ما أبالي إذا اتقتك الليالي

من دهته حبولها والخبول

(النيل: العطاء – اتقتك: تجنبتك – حبولها: دواهيها – الخبول: الآفات).

٭ ٭ ٭

وبعد، فهذه نماذج من الأصداء التي أطلقتها حلب منذ فجر تاريخها. وهي لا تزال على ما كانت عليه في الماضي تحتضن أهاليها الأكارم، وتحفهم برعايتها، وتقدم من بينهم المدافعين عن الوطن والشهداء والعلماء، ولا تزال ترفض كل طارئ عليها من أولئك الذين لا يقدمون لها إلا الشر، وفوق ذلك فإنها لا تزال تزهو بدور العلم وكوكبة من رجاله العلم الذين لهم ذكر طيب في مجالات علمهم وعملهم، ولهم إبداعات دائمة في مؤلفاتهم.

حفظ الله سورية من كل الشرور.

وحفظ حلب الشهباء.

شاركها.
اترك تعليقاً

2025 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.