أكتب هذه السطور لا من موقع المنظّر الأكاديمي، بل من موقع من عاش تفاصيل بناء إدارات الاتصال في مؤسسات حكومية وشبه حكومية، ورأى بأم عينه كيف تتحول هذه الإدارات إلى ساحة اختبار عسيرة للمديرين التنفيذيين. والحق أن أغلب من مرّ على هذه المواقع خرج منها مثقلاً بالتجارب، وربما بخيبات الأمل، لأنهم واجهوا السؤال الصعب: كيف تُبنى إدارة اتصال استراتيجي تُحدث فرقاً حقيقياً في الصورة الذهنية للمؤسسة؟. إن الخبرة التي انطلق من خلالها هي خبرة مرت عبر تجاربي في ٣ دول بريطانيا وإسبانيا وإيطاليا بالإضافة إلى عملي مستشارا اتصاليا لشركات أجنبية، مما يجعل عملية الإبحار في الإدارات الاتصالية عملية تحتاج لشغف يتغلب على عملية الإنهاك المجهد الذي يصيب -غالبا- مدراء الاتصال في هذا السياق.

ولعل الملفت في الأمر أن كثيرا من إدارات الاتصال تتحول في كثير من الأحيان إلى ما يشبه “المقصلة” للمديرين؟ وذلك في نظري يعود إلى غياب الرؤية الاستراتيجية. فحين تفقد الإدارة بوصلتها، تتحول إلى وحدة ردّ فعل مرتبكة، مشغولة بالمهام اليومية العاجلة، وعاجزة عن بناء مشروع طويل الأمد يضمن استمرارية التأثير. الأخطر أن بعض المؤسسات تختزل الاتصال في إدارة أزمات وقتية أو في تزيين إعلامي سطحي، فيتحول العمل إلى سلسلة من ردود الأفعال لا أكثر. في هذه الحالة، يجد المدير نفسه وحيداً أمام توقعات مرتفعة وضغوط لا يمكن النجاح في تلبيتها. ومن دون إطار استراتيجي واضح، تصبح هذه الإدارات ساحة استنزاف للطاقات، لا منصة لصناعة الصورة الذهنية وبناء السمعة المؤسسية المستدامة.

ولذلك فسر نجاح مدير الاتصال ليس أمراً معقداً بقدر ما هو قائم على ثلاثة ركائز أساسية أعتبرها مقدسة في إدارة الاتصال. فلكي يتمكن المدير الاتصالي من النجاح، لابد أن يرتكز على هذه الثلاثية الجوهرية التي لا يجوز إغفالها أو تجاوزها، وهي: الإنتاج، التطوير، والاستقطاب. هذه العناصر ليست مجرد عناوين أو شعارات، بل تمثل دورة حياة متكاملة؛ فإذا تعطلت إحداها تعطلت معها حركة الصورة الذهنية، وضاعت قدرة المؤسسة على الحضور والتأثير، واقترب المدير الاتصالي من المقصلة.

وحين يخطو المدير الاتصالي إلى الإدارة، سواء كان مؤسسًا لها أو مكملاً لمسيرتها، فإنه يجد نفسه أمام ضرورة لا يمكن تجاوزها: الإنتاج. وأود هنا أن أبتعد قليلاً عن قضايا العلاقات أو المراسم أو حتى التسويق، لأركز على البعد الإعلامي. فالإنتاج هو الأساس، وهو الركيزة المقدسة التي ينبغي أن تُمنح الأولوية، سواء عبر صناعة محتوى جديد، أو إعادة توظيفه، أو إعادة توجيه رسائله. فالإنتاج لا يقتصر على بيانات صحفية جامدة أو تغريدات باهتة أو صور تقليدية، بل يتجاوز ذلك إلى محتوى متدفق ومؤثر يحوّل الأحداث إلى روايات إنسانية ملهمة، ويُترجم الأرقام الصامتة إلى رسائل بصرية راسخة وسريعة الوصول. كما أن النجاح لا يقوم على ردّات الفعل مثل استقبال ضيف أو تنفيذ برنامج عابر، بل على صناعة الفعل ذاته، عبر تتبع القصص وتوليد المحتوى ووضع المؤسسة في بؤرة انتباه المتلقي بشكل دائم، داخليًا كان أو خارجيًا. ومن دون هذا الإنتاج المتجدد، تنقلب الإدارة الاتصالية إلى جهاز بيروقراطي بارد، يفتقد الروح والحيوية.

أما الركيزة المقدسة التالية فهي التطوير والتدريب. فالتدريب والتطوير، أو العكس، هما السلاح الذي يرسم بقاء الإدارة أو زوالها. إنهما القوة التي تدفع العاملين إلى استكشاف مساحات جديدة في عالم الإعلام، وتمنحهم القدرة على الاستمرار والمحافظة على جذوة الشغف. وعندما نتحدث عن التدريب والتطوير فإننا لا نعني المكافأة السطحية للموظف، بل تمكين قدراته وصقل مهاراته. هذا التدريب المتجدد هو ما ينسجم مع بيئة إعلامية تتغير كل دقيقة، ومن يظل أسير أدوات الأمس يخسر جمهوره سريعاً. ولهذا فإن التطوير يتطلب الاستثمار في الرصد الإعلامي، وتحليل البيانات، وتحديث الاستراتيجيات، وإعادة تشكيل الفرق بما يتلاءم مع متطلبات المرونة والسرعة. وهكذا يتضح أن التطوير في إدارات الاتصال ليس خياراً ثانوياً، بل ضرورة حيوية للبقاء.

وعندما نتحدث عن نجاح الإدارات الاتصالية، فإننا غالباً نركّز على الإنتاج الإعلامي والتدريب والتطوير المستمر، غير أن التجربة تثبت أن هذه العناصر وحدها لا تكفي ما لم تُدعّم بركيزة ثالثة لا تقل أهمية: الاستقطاب. فالقيمة الحقيقية لأي إدارة لا تُقاس بعدد العاملين فيها، بل بنوعية العقول التي تُدير مسيرتها وتصنع رسائلها. لقد أظهرت التجارب أن فريقاً صغيراً من الكفاءات المبدعة، القادرة على التفكير الاستراتيجي والتحليل العميق وصياغة الرسائل المؤثرة، يعادل في أثره مؤسسات مكتظة بموظفين تقليديين يكتفون بالتنفيذ. وهذا ما يجعل الاستقطاب الذكي أكثر من مجرد عملية توظيف؛ إنه عملية انتقاء دقيقة لمن يضيف قيمة، ويخلق فارقاً، ويمنح الإدارة مرونة واستدامة.

وعندما يتحقق هذا النهج، تتحول الإدارة الاتصالية من وحدة هامشية إلى بيت خبرة داخلي، قادر على إنتاج الأفكار، وتوجيه الرأي العام، وصياغة رسائل تحفظ الصورة الذهنية وتبني سمعة المؤسسة باحترافية. عندها يصبح الاستقطاب شرياناً حيوياً، لا يقل وزناً عن الإنتاج والتطوير، بل الضمانة الحقيقية لدور استراتيجي لا غنى عنه.

بقي القول، لقد تعلمت من خلال تجربتي الطويلة في عوالم الاتصال المؤسسي أن الإدارات الاتصالية التي تتقن الثلاثية (الإنتاج – التطوير – الاستقطاب) تدخل دورة حياة مستمرة لصناعة الصورة الذهنية، وتتحول من كونها عبء على المؤسسة إلى كونها ذراعا استراتيجية تمنح مؤسستها قيمة مضافة وتدير سمعتها باحترافية. أما من يتجاهل هذه الثلاثية، فإنه يكتب حكماً مؤجلاً على إدارته بالفشل وربما يتم القضاء على مسيرة مدير الاتصال مهنيا.

شاركها.
اترك تعليقاً