في خطوة تاريخية تعكس عمق الجراح الناجمة عن حقبة استعمارية مؤلمة، أقرّ البرلمان الجزائري بالإجماع قانونًا يجرّم الاستعمار الفرنسي للجزائر، واصفًا إياه بـ “جريمة دولة” ومطالبًا بـ “اعتذار رسمي” من فرنسا. هذا القرار، الذي اتخذ يوم الأربعاء، يحمل في طياته دلالات سياسية ورمزية عميقة، ويفتح الباب أمام نقاشات جديدة حول الذاكرة الجماعية والمسؤولية التاريخية.
إقرار قانون تجريم الاستعمار: تفاصيل القرار التاريخي
القانون الجديد، الذي لقي استحسانًا واسعًا داخل الجزائر، يضع الاستعمار الفرنسي للجزائر في خانة الجرائم التي لا تسقط بالتقادم. ووقف أعضاء المجلس الشعبي الوطني، وهم يرتدون ألوان العلم الجزائري، وصفقوا بحرارة بعد إقرار النص الذي يلقي المسؤولية القانونية على عاتق الدولة الفرنسية عن “ماضيها الاستعماري في الجزائر والمآسي التي تسبّب بها”.
القانون لا يقتصر على الإدانة اللفظية، بل يعدد بشكل تفصيلي “جرائم الاستعمار الفرنسي” التي تشمل الإعدام خارج نطاق القانون، والتعذيب، والاغتصاب، والتجارب النووية المدمرة، والنهب المنهجي للثروات الطبيعية للجزائر. هذه التوصيفات القانونية تهدف إلى ترسيخ هذه الحقائق في الذاكرة الوطنية، وتقديم أساس لمطالبات مستقبلية بالتعويضات.
دلالة رمزية وأبعاد قانونية
على الرغم من الدلالة الرمزية القوية للقانون، يرى بعض المحللين أن تأثيره العملي على ملف التعويضات قد يكون محدودًا ما لم يتم اللجوء إلى هيئات دولية أو اتفاق ثنائي بين البلدين. فمن الناحية القانونية، كما أوضح الباحث حسني قيطوني، “لا يحمل هذا القانون أي بُعد دولي، وبالتالي لا يمكنه إلزام فرنسا”، وأثره القانوني يقتصر على الأراضي الجزائرية.
ومع ذلك، يشدد قيطوني على الأهمية السياسية والرمزية للقانون، معتبرًا إياه “لحظة قطيعة في العلاقة التاريخية مع فرنسا”. هذا القانون يمثل بالتأكيد موقفًا رسميًا وحازمًا من الجزائر تجاه ماضيها الاستعماري، ويضع فرنسا أمام مسؤولياتها التاريخية.
أزمة دبلوماسية وتصعيد في التوترات
إقرار هذا القانون يأتي في توقيت دقيق، حيث تشهد العلاقات بين باريس والجزائر توترات متزايدة. وقد ازدادت هذه التوترات حدة مع إدانة وسجن الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال، الذي استفاد في النهاية من عفو رئاسي بطلب ألماني. هذه الحادثة، وغيرها، ساهمت في تعميق الخلافات بين البلدين.
الموقف الفرنسي الرسمي، كما عبر عنه المتحدث باسم وزارة الخارجية الفرنسية باسكال كونفافرو، يكتفي بعدم التعليق على “نقاشات سياسية تجري في دول أجنبية”. هذا الرد الدبلوماسي المتحفظ يعكس على الأرجح حساسية الموضوع في فرنسا، والخوف من فتح جرح قديم.
المطالبة بالاعتذار والتعويضات
القانون الجديد يؤكد بشكل قاطع أن “التعويض الشامل والمنصف، عن كافة الأضرار المادية والمعنوية التي خلّفها الاستعمار الفرنسي للجزائر، حق ثابت للدولة والشعب الجزائري”. وينص على إلزام الدولة الجزائرية بالسعي من أجل “الاعتراف والاعتذار الرسميين من طرف دولة فرنسا عن ماضيها الاستعماري”.
بالإضافة إلى ذلك، يطالب القانون فرنسا بـ “تنظيف مواقع التفجيرات النووية” وتسليم “خرائط التفجيرات النووية والتجارب الكيماوية، والألغام المزروعة”. فقد أجرت فرنسا 17 تجربة نووية في الصحراء الجزائرية بين عامي 1960 و1966، وتركت وراءها آثارًا كارثية على البيئة وصحة السكان.
كما يطالب القانون بإعادة “أموال الخزينة التي تم السطو عليها” وكل الممتلكات المنقولة من الجزائر، بما في ذلك الأرشيف الوطني الذي يحتوي على وثائق مهمة تتعلق بتاريخ البلاد.
تجريم التعاون مع الاستعمار وتداعياته
القانون لا يقتصر على إدانة السياسات الاستعمارية الفرنسية، بل يذهب إلى أبعد من ذلك بتجريم التعاون معها. وينص على عقوبات بالسجن والحرمان من الحقوق المدنية والسياسية لكل من “يروج” للاستعمار أو ينفي كونه جريمة.
الأكثر إثارة للجدل هو اعتبار الجزائريين الذين تعاونوا مع الاستعمار الفرنسي، والمعروفين بـ “الحركيين”، مرتكبين لـ “جريمة الخيانة العظمى”. هذا البند يثير مخاوف بشأن إمكانية استخدامه لتصفية حسابات سياسية أو اجتماعية، ويفتح الباب أمام نقاشات حادة حول دور هؤلاء الأشخاص في تاريخ الجزائر.
أول قانون من نوعه وأهميته التاريخية
هذا القانون يمثل سابقة تاريخية، حيث أنه المرة الأولى التي يناقش فيها البرلمان الجزائري، في جلسة علنية، مقترح قانون يتعلق بتجريم الاستعمار الفرنسي للجزائر طيلة 132 سنة من الحكم الاستعماري (1830-1962). صياغة القانون تمت من قبل لجنة برلمانية تضم 7 نواب، يمثلون مختلف الكتل البرلمانية.
ختامًا، يمثل إقرار هذا القانون لحظة فارقة في تاريخ العلاقات الجزائرية الفرنسية. سواء أدى إلى اعتراف واعتذار رسمي من فرنسا أم لا، فإنه يرسل رسالة واضحة إلى الداخل والخارج بأن الذاكرة الوطنية الجزائرية ليست قابلة للمساومة، وأن الحق في التعويض والاعتراف بالظلم التاريخي هو حق مشروع للدولة والشعب الجزائري. من المؤكد أن هذا القانون سيظل محور نقاش وجدل لفترة طويلة، وسيشكل نقطة تحول في طريقة التعامل مع الماضي الاستعماري.















