تحوّل حي الزيتون في غزة إلى مسرح تهجير قسري جديد، حيث يكشف تحليل صور الأقمار الصناعية والبيانات الميدانية استهداف مراكز الإيواء والملاجئ، في مسار يقود إلى نزوح جماعي بلا أفق.

وفي قلب مدينة غزة، حيث يضيق الخناق على المدنيين يوما بعد يوم، يطل حي الزيتون كأحد أكثر الأحياء استهدافا خلال الأيام الأخيرة من الحرب الإسرائيلية الحالية على القطاع.

وقد تحوّل حي الزيتون -الذي كان ملاذا لآلاف النازحين- إلى مسرح للقصف المكثف ومراكزه الإيوائية إلى أهداف مباشرة، لترسم ملامح مأساة تهجير جديدة في سجل النزوح القسري بالقطاع.

وفي 15 أغسطس/آب الجاري، أعلن المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي بدء عمليات عسكرية تنفذها قوات من الفرقة 99 داخل حي الزيتون (جنوب شرق غزة) مؤكدا أن نشاط هذه القوات بدأ قبل أيام، مما يعني أنه إعلان لم يأت بمعزل عن الميدان، بل كشف عن فصل جديد من خطة تهجير واسعة تستهدف سكان المدينة.

وقد سبق هذه الخطوة إعلان كتائب القسام تنفيذ كمين مركب ضد قوة إسرائيلية في أرض البرعصي جنوب الحي، وشمل استهداف جنود داخل أحد المنازل بقذيفة مضادة للدروع من نوع “تي بي جي” (TBG) إضافة إلى تفجير ناقلتي جند بعبوات ناسفة.

صور ودلالات

وبتحليل صور الأقمار الصناعية يوم 14 أغسطس/آب الجاري، والتي عملت عليها وحدة التحقيقات المعمقة في وكالة سند، تمّ تمييز ظهور أعمدة دخانية ناتجة عن القصف الجوي والمدفعي الإسرائيلي المكثف على حي الزيتون.

وفي 16 أغسطس/آب، وثق صحفي فلسطيني لحظة استهداف الجيش الإسرائيلي منزلا يعود لعائلة النعسان في حي الزيتون، في مشهد يلخص قسوة ما يتعرض له الحي من قصف جوي ومدفعي وعمليات نسف متعمد للبنايات.

وفي هذا التحقيق تتبع للأثر المباشر لتلك الهجمات على مسار التهجير القسري، الذي تسير فيه الخطة الإسرائيلية المعلنة لدفع السكان نحو الجنوب، تمهيدا لعملية أوسع للسيطرة على مدينة غزة، حيث إن المدنيين الذين احتموا بمراكز الإيواء وخيام النزوح وجدوا أنفسهم هدفا مباشرا للقصف، مما ضاعف المخاطر على مئات الآلاف المحاصرين في نصف مساحة المدينة المتبقية.

ووفق بيانات بلدية غزة، فإن مئات الآلاف يواجهون خطر التهجير المباشر، مما يعكس حجم الكارثة المحتملة.

ويكشف التحقيق، المبني على تحليل بيانات وصور من مصادر مفتوحة، الآثار الكارثية التي لحقت بالنازحين داخل حي الزيتون، وبالتبعية على مدينة غزة، وما ترتب عليها من نزوح متكرر لعشرات الآلاف من العائلات، لتغدو مأساة الحي مرآة لأزمة غزة كلها.

تكدس خيام النازحين في مواصي خانيونس 18 يوليو/تموز 2025. (بلانت)

تقديرات وأرقام

ويوثق فريق “سند” أن مدينة غزة احتضنت منذ أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحتى يوليو/تموز 2025 ما مجموعه 176 مركزا ومخيما للإيواء، ومن بين هذا العدد، يقع 11 مركزا ومخيما داخل حدود حي الزيتون وحده، بينها 9 مراكز واثنان من المخيمات التي تستوعب آلاف النازحين.

وبحسب تقديرات وكالة الأونروا، يفترض أن يتسع كل مركز إيواء لنحو ألف إلى 1200 شخص، لكن الواقع تجاوز هذا الحد بأضعاف، إذ باتت المراكز اليوم تحتضن ما بين 4 آلاف و4800 نازح في كل منها، أي أن المراكز التسعة في الحي وحده قد تؤوي ما يقارب 36 إلى 43 ألف إنسان، دون احتساب المخيمين اللذين لم يشملهما هذا التقدير.

وتُظهر الخرائط أن مراكز الإيواء في الزيتون داخل الحدود الإدارية تتمركز في منطقة شمال الحي، حيث تكدست الخيام والملاجئ في بقعة ضيقة، لتصبح شاهدة على واحدة من أكبر موجات النزوح داخل المدينة.

وتكشف الخرائط أن حي الزيتون -أكبر أحياء البلدة القديمة في غزة وثانيها من حيث عدد السكان- لم يعد كما كان، فمساحته المقدرة بنحو 9.5 كيلومترات مربعة تقلصت منذ بداية الحرب، بعدما نسف الجيش الإسرائيلي 6.5 كيلومترات مربعة، أي ما يعادل 68% من الحي، ضمن مشروع إنشاء محور “نتساريم” والمنطقة العازلة، ولم يتبق سوى 3.2 كيلومترات مربعة (32% من المساحة الكلية) احتمى بها آلاف النازحين، قبل أن يستأنف جيش الاحتلال عملياته العسكرية حتى في هذه البقعة الأخيرة.

مخيمات الإيواء في حي الزيتون 09 آب/أغسطس 2025. (بلانت)

وتيرة متسارعة

وبتحليل صور الأقمار الصناعية يتبين إخلاء عدد من هذه المراكز داخل حي الزيتون، في مشهد يعكس تسارع وتيرة النزوح تحت الضغط العسكري المباشر. وتظهر الصور -الملتقطة في أغسطس/آب الجاري- اختفاء عدد من خيام النازحين من داخل المخيمات، إضافة إلى تلف بعضها بفعل العوامل الجوية، ونتيجة القصف المتواصل على الحي مما يدلل على حركة نزوح متواصلة.

ولم يقتصر التصعيد الإسرائيلي على الزيتون وحده، بل امتد إلى مراكز إيواء داخل مدينة غزة كان يفترض أن تحظى بحماية القانون الدولي الإنساني. ففي الفترة ما بين 11 و16 أغسطس/آب الجاري، وثقت المصادر استهداف 3 مراكز رئيسية وهي مدرسة الزيتون (الفلاح) في الحي نفسه، وخيمة في شارع اللبابيدي 11 أغسطس/آب الجاري، بالإضافة إلى مدرسة موسى بن النصير في حي الدرج ومدرسة ماجدة الوسيلة في حي النصر، في 15 أغسطس/آب الجاري، كما طالت الهجمات خيام نازحين في حي الشيخ عجلين يوم 16 من الشهر ذاته.

ويكشف هذا النمط من الاستهداف تآكل المساحات الإنسانية في غزة، حيث تتحول المدارس والملاجئ من ملاذ أخير للمدنيين إلى مسرح للهجمات، مما يفاقم معاناة العائلات التي لجأت إلى تلك المراكز مهددة بنزوح جديد.

مراكز ومخيمات الإيواء في حي الزيتون جنوب شرق مدينة غزة. (وكالة سند)

انتقال قسري

بالتوازي مع القصف والاستهداف المباشر، تواصل إسرائيل الضغط لتهجير سكان مدينة غزة نحو الجنوب، حيث تشير تقديرات بلدية خان يونس إلى وجود مئات الآلاف من النازحين في مساحة لا تتجاوز 28 كيلومترا مربعا.

ولذلك فإن الانتقال القسري لمئات الآلاف من النازحين من شمال المدينة ووسطها سيعني أن ما يقارب مليوني فلسطيني سيجدون أنفسهم محاصرين في مخيم جماعي هائل جنوب القطاع، في ظل غياب أي بدائل، وهو ما يعني أن الجنوب يواجه أزمة خانقة غير مسبوقة، حيث تتلاشى الحدود بين النزوح الجماعي والانهيار الإنساني الشامل.

وتكشف التطورات الأخيرة أن العملية العسكرية الإسرائيلية بمدينة غزة ليست مجرد تحركات ميدانية متفرقة، بل تسير وفق سياسة ممنهجة تهدف إلى دفع السكان للنزوح القسري جنوبا، بالتوازي مع استهداف الأحياء السكنية والمراكز الإنسانية، وهذه الإستراتيجية تهيئ لمرحلة أبعد تتمثل في إفراغ المدينة تمهيدا لتهجير واسع خارج القطاع.

شاركها.
اترك تعليقاً