يكمل وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن بزيارته الحالية للمنطقة الدورةَ التاسعة من الطواف حول تل أبيب، وفي كل دورة يبدو وزير خارجية أكبر دولة في العالم أكثر حرصا على صلة الرحم الدينية والسياسية التي تربطه بإسرائيل تصريحا لا تلميحا.

في زيارته الأولى لإسرائيل أياما قليلة بعد طوفان الأقصى، قال بلينكن إنه لم يأتِ لإسرائيل بوصفه وزيرا لخارجية الولايات المتحدة فقط، بل بصفته “يهوديا فرّ جده من القتل”.

وفي جولته الأحدث التي اختتمها اليوم الاثنين، كان بلينكن منحازا أيضا للرؤية الإسرائيلية ومتماهيا مع مواقف رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، وأكد أنه قبل المقترح المعروض وأن الكرة الآن في مرمى حركة حماس “إن كانت تكترث لحياة الفلسطينيين في قطاع غزة”، وفق تعبيره.

التصريحات الجديدة لبلينكن خلال مؤتمره الصحفي مساء اليوم الاثنين بدت محبطة ومخيبة لآمال كثيرين توقعوا -وفقا لحسابات اللحظة وسياقات الزيارة- أن يضغط على نتنياهو لقبول مقترح رئيسه جو بايدن والذي وافقت عليه حماس ورفضه نتنياهو.

وقبيل تصريحات بلينكن، كان مكتب نتنياهو يكيل الثناء ويغدق المديح على نتائج اللقاء الذي جمع بين بلينكن ونتنياهو في القدس والذي استمر نحو 3 ساعات وقد يكون هو الأطول خلال زيارات بلينكن المتتالية لإسرائيل منذ بدء عدوانها على قطاع غزة في السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي.

9 جولات في 10 شهور

ومع ختام زيارته الحالية، يكون بلينكن قد زار إسرائيل 9 مرات خلال 10 شهور، أي بمعدل زيارة واحدة كل شهر تقريبا.

وفي ما يلي عرض للجولات التي قام بها بلينكن خلال الشهور العشرة الماضية لإسرائيل والمنطقة، وأهم ما يتصل بها من معلومات وسياقات:

الزيارة الأولى.. ضوء أخضر للحرب المفتوحة

جاءت أولى زيارات وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن لإسرائيل بعد 6 أيام من طوفان الأقصى، حيث زارها يوم الخميس 12 أكتوبر/تشرين الأول 2023.

وقال في تصريح له خلال تلك الزيارة إنه لم يأتِ لإسرائيل كونه وزيرا لخارجية الولايات المتحدة فقط، ولكن بصفته “يهوديا فرّ جده من القتل”.

وكانت تلك الزيارة ذات طابع تضامني مع إسرائيل بعد عملية “طوفان الأقصى” المباغتة التي نفذتها المقاومة الفلسطينية، كما أنها كانت بمثابة ضوء أخضر للحرب الإسرائيلية الشاملة على القطاع.

وعلى هامشها، قال بلينكن إن زيارته تحمل رسالة مفادها أنهم سيكونون دائما موجودين إلى جانب الإسرائيليين، الذين قال إنهم ليسوا مضطرين للدفاع عن أنفسهم بمفردهم.

ومن الأنشطة البارزة ذات الدلالة اللافتة في تلك الزيارة مشاركة بلينكن في اجتماع لمجلس “الحرب” الإسرائيلي الذي تشكل عقب السابع من أكتوبر.

الزيارة الثانية.. حشد التأييد والتلاعب بالزمن

أخذت الزيارة الثانية للوزير الأميركي طابع المخاتلة، حيث شملت إسرائيل ودولا عربية أخرى، وحملت نفسا إنسانيا خافتا يعبّر عن استعداد واشنطن لبحث ممرات للمساعدات الإنسانية، وتأتي هذه المهمة في الرتبة الثانية بعد المهمة الأولى وهي حشد التأييد لتل أبيب في العواصم العربية التي زارها، ومحاصرة أي ميل أو دعم مرتقب لحماس.

وقال بلينكن خلال وجوده في إسرائيل (16 أكتوبر/تشرين الأول 2023) التي استبق زيارتها بزيارة دول عربية، إنه سمع في تلك الدول “الكثير من الأفكار الجيدة” خصوصا فيما يتعلق بتقديم المساعدات لسكان قطاع غزة البالغ عددهم 2.2 مليون نسمة، نافيا إمكانية طرد الفلسطينيين من القطاع.

الزيارة الثالثة.. من أجل مفاوضات لا سقف لها

صباح يوم الجمعة 3 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، عاد بلنيكن إلى إسرائيل في ثالث زيارة له منذ عملية طوفان الأقصى، ورغم الإعلان عن نية الرجل الضغط على حلفائه في تل أبيب، فإن تصريحاته جاءت بخلاف ذلك، إذ قال في مؤتمر صحفي مع الرئيس الإسرائيلي “مصممون على دعم إسرائيل ولن نتوانى في ذلك أبدا، يحق لإسرائيل أن تدافع عن نفسها، ونحرص على عدم تكرار تلك الهجمات”.

وبعد انتهاء جدول زيارته لإسرائيل، توجه بلينكن إلى الأردن، وبدأ بعدها جولة في دول آسيوية شملت اليابان وكوريا الجنوبية والهند.

الزيارة الرابعة.. تهدئة لمحاصرة الانتقام بعد اغتيال العاروري

في التاسع من يناير/كانون الثاني 2024 كانت الزيارة الرابعة منذ بدء الحرب في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023. وقد شملت تركيا والأردن وقطر والإمارات والسعودية، إلى جانب إسرائيل.

وما ميز هذه الزيارة أنها تأجلت عن وقتها المعلن سابقا بسبب الاغتيال الذي نفذته إسرائيل بحق القيادي في حماس الشهيد صالح العاروري في العاصمة اللبنانية بيروت.

وبدا واضحا أن المسؤول الأميركي يبذل جهده من أجل تخفيف ما يمكن أن يقع من انتقام جراء اغتيال العاروري في لبنان.

الزيارة الخامسة.. من أجل المحتجزين لا السلام

في الخامس من فبراير/شباط 2024 بدأ بلينكن جولته الخامسة في المنطقة افتتحها بالسعودية، وشملت مصر وقطر وإسرائيل والضفة الغربية. وكانت قضية الأسرى الإسرائيليين في غزة العنصر الأهم بالنسبة لكبير الدبلوماسيين الأميركيين، ضمن حدب غربي على محتجزين يلقون أحسن المعاملة باعتراف من أُفرج عنهم، مقابل آلة دمار طحنت لحد الآن أكثر من 40 ألف شهيد دون أن تستفز الروح الإنسانية في قلوب معظم قادة الغرب.

الزيارة السادسة.. حضور الضفة ومواصلة الحرب

في 22 مارس/آذار 2024 وصل وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن إلى إسرائيل، بعد أن أنهى جولة أخرى في الرياض والقاهرة، وقد كانت المساعدات الإنسانية التي لا تدخل إلا بشق الأنفس موضوع نقاش مع القادة العرب.

أما في إسرائيل، فقد شمل النقاش -بالإضافة إلى الملفات التقليدية- وضعية الضفة الغربية، وسبل التعاطي مع السلطة الفلسطينية، وطبعا كان وقف وإنهاء الإبادة خارج أجندة التوافق مع الإسرائيليين.

وبعد انتهاء اجتماعاته مع السياسيين الإسرائيليين، التقى بلينكن الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وقال إنه ناقش معه التدابير الرامية إلى “تحسين الأمن والحرية للفلسطينيين في الضفة الغربية”.

الزيارة السابعة.. لمواجهة حماس مجددا

في الثلاثين من أبريل/نيسان الماضي، بدأ بلينكن زيارة إلى تل أبيب قادما من الأردن والسعودية، في سابع جولة بالمنطقة منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.

ناقش الوزير الأميركي مع القادة الإسرائيليين سبل التعامل العسكري مع حماس، وقدم لهم النصائح بشأن خطر التهور في اجتياح بري لمدينة رفح.

وفي ختام هذه الزيارة، قال بلينكن إنه أبلغ القادة الإسرائيليين بوضوح معارضة الولايات المتحدة هجوما بريا واسعا على مدينة رفح في جنوبي قطاع غزة، مشيرا إلى أنه اقترح “حلولا أفضل” للتعامل مع حركة حماس.

وأضاف بلينكن للصحفيين بعد محادثات مع نتنياهو ومسؤولين آخرين في إسرائيل، “موقفنا واضح، لم يتغير ولن يتغير”.

في الأسابيع التالية كانت الدبابات الإسرائيلية تجتاح معظم مساحات رفح رغم المعارضة العلنية لواشنطن ولاءات بلينكن التي كررها في أكثر من زيارة وأكثر من تصريح.

الزيارة الثامنة.. ترميم البيت الصهيوني المتآكل

في العاشر من يونيو/حزيران 2024 بدأ وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن جولته الثامنة في المنطقة، حيث بدأها من مصر قبل أن ينتقل إلى قطر والأردن، وكالعادة مع الإفاضة من تل أبيب. وتأتي هذه الزيارة -من بين أمور أخرى- لترميم البيت الصهيوني المتآكل، مع إعلان الوزير الإسرائيلي بيني غانتس استقالته من حكومة الطوارئ التي يترأسها بنيامين نتنياهو.

الزيارة التاسعة.. الفرصة الأخيرة للتوافق

بدأت الزيارة التاسعة أمس الأحد 18 أغسطس/آب الجاري إلى إسرائيل ضمن جهود أميركية للدفع قدما نحو إبرام صفقة لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، بعد وصل شهداء وجرحى العدوان إلى نحو 140 ألفا، وبعد أن طال الدمار معظم بيوت ومساكن غزة.

كما تأتي الزيارة وما سبقها من جولة مفاوضات ومقترح أميركي تحفظت عليه حماس، وقال بلينكن إن نتنياهو قبله، والحال أن الحرب أصبحت في الجانب الإسرائيلي أكثر إنهاكا لتل أبيب واستنزافا لواشنطن.

واعتبر بلينكن أن الفرصة الأخيرة قد تضيع إذا لم يتم التوصل لاتفاق تهدئة وهدنة بين الطرفين، ومع ذلك فإن بلينكن لا يخفي أنه بالفعل أحد الطرفين بانحيازه المستمر لإسرائيل التي يتفهم مواقفها باستمرار، وجاهز على الدوام لتحميل الطرف الفلسطيني مسؤولية فشل أي جولة مفاوضات.

مؤشرات ودلالات

ودون أن تثمر الزيارات التسع أي أثر على الأرض، ولم تتوقف الحرب ولم تنتصر إسرائيل ولم ترفع المقاومة الراية البيضاء، فإنها أظهرت:

  • علامات الوهن ومستوى التراجع الكبير للثقل الأميركي في المنطقة، حيث حلت الجولات المكوكية محل المكالمات الهاتفية التي كانت لعقود قاطعة للنزاع وحاسمة للجدل، إلا أنها اليوم تواجه العجز التام عن إيقاف لهب يوشك أن يتمدد ليتحوّل إلى حرب إقليمية.
  • الفشل في إيقاف الإبادة الجماعية، فمع أن تصريحات بلينكن في جولاته الأولى ركزت على حق إسرائيل في أخذ وقتها وجهدها للدفاع عن نفسها، وعلى الوقوف الأميركي التام معها في أخذها الثأر لنفسها، إلا أن تصريحاته المصاحبة لجولاته الأخيرة أضافت لتلك المضامين تأكيدا على أهمية التوصل لاتفاق لوقف إطلاق النار، وتجنب إيذاء المدنيين والتخفيف ما أمكن من الأضرار الواقعة عليهم.
  • الهم الأميركي الأساسي في حشد مزيد من الحماية والدعم الإقليمي لإسرائيل، ففي كل زيارة لإسرائيل كان بلينكن يقدم رسائل لجهات إقليمية، في مقدمتها إيران، مفادها أن الولايات المتحدة لن تسمح بالاعتداء على إسرائيل، وأنها ستحشد كافة إمكانياتها للحيلولة دون ذلك، وللدفاع عن إسرائيل، وتثبيت قوة الردع الأميركية.
  • الضعف الأميركي تجاه الصقور الصهيونية المتحكمة في القرار الأمني والسياسي في تل أبيب، فلم تعد الضغوط الأميركية تجدي نفعا في حملها على موقف أو رؤية معينة، حتى لو كانت تمثل رغبة لدى أطياف واسعة من الإسرائيليين، وفي مقدمتهم مسؤولون بارزون وعائلات الأسرى.
  • ارتهان القرار الأميركي لمواقف نتنياهو، حيث أظهرت الأحداث استعداد الرئيس الأميركي جو بايدن وكبير دبلوماسييه لخسارة كل شيء مقابل مجاراة نتنياهو في تلاعبه بالمقترحات المقدمة لوقف إطلاق النار، ورغم الإحباط المتواصل وفق التسريبات لإدارة بايدن، فإنها تجنبت القيام بضغوط حقيقة ومؤثرة على نتنياهو، وبدا مع الوقت أنها تمتلك القليل من وسائل التأثير على سير الحرب أو نهايتها.

وبين الزيارات التسع، لم يتغير من خطاب كبير الدبلوماسيين الأميركيين أي شيء، فما زال بلينكن -الذي جاء في مستهل الحرب معتزا بيهوديته- الخادم الأكثر جولانا في المنطقة دعمًا لتل أبيب في سياستها وحربها وعدوانها.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.