في تغيير جذري عن إستراتيجية الأمن القومي الأميركي لعام 2022 التي دعت إلى تعزيز الديمقراطية في ظل النظام العالمي الحالي، نشرت إدارة الرئيس دونالد ترامب، أمس الجمعة، إستراتيجية جديدة شددت على مبدأ عدم التدخل ووضع “أميركا أولا”. هذه الوثيقة، التي تمثل رؤية شاملة لكيفية تعامل الولايات المتحدة مع العالم، تثير تساؤلات حول مستقبل السياسة الخارجية الأمريكية وتأثيرها على مختلف المناطق. تعد هذه الإستراتيجية بمثابة بيان شامل يحدد التهديدات والفرص التي تواجهها الولايات المتحدة، والأدوات التي تعتزم استخدامها لحماية مصالحها، وتستند إلى قانون الأمن القومي لعام 1986 الذي يلزم البيت الأبيض بتقديم هذه الوثيقة الدورية إلى الكونغرس.
الإستراتيجية الجديدة للأمن القومي: تحول في الأولويات
تُظهر إستراتيجية الأمن القومي الجديدة قطيعة واضحة مع النهج الذي ساد منذ نهاية الحرب الباردة، والذي ركز على قيادة أمريكية لنظام دولي ليبرالي. بدلاً من ذلك، تنطلق الوثيقة من مبدأ أن العالم يتكون من دول قومية ذات سيادة، تركز بشكل أساسي على حماية حدودها وهويتها ومصالحها الاقتصادية. هذا التحول يمثل إعادة تقييم جذرية لدور الولايات المتحدة في العالم.
“أمريكا أولاً” في صميم الإستراتيجية
تضع الإستراتيجية الجديدة “أمريكا أولاً” في صميم أولوياتها، مع التركيز على إعادة بناء الطبقة الوسطى وتعزيز القاعدة الصناعية والتكنولوجية داخل الولايات المتحدة. تعتبر الوثيقة أن “نخب السياسة الخارجية” تتحمل مسؤولية تبديد القوة الأمريكية في حروب طويلة الأمد في الشرق الأوسط، والتوسع غير المدروس للالتزامات الأمنية في أوروبا وآسيا، والتغاضي عن الآثار السلبية للعولمة على الطبقة الوسطى الأمريكية.
الهجرة والأمن القومي
أحد أبرز التغييرات في الإستراتيجية الجديدة هو اعتبار “قضية الهجرة” جزءًا أساسيًا من مفهوم الأمن القومي. تربط الوثيقة بين أمن الحدود، والجريمة المنظمة، والمخدرات، والضغط على الهوية الثقافية الأمريكية، وتضع هذا الملف في مرتبة تهديد لا تقل عن منافسة القوى الكبرى. وتعلن الإستراتيجية أن “عصر الهجرة الجماعية يجب أن ينتهي”.
الشرق الأوسط في الإستراتيجية الجديدة: تقييم متجدد
بالنسبة إلى الشرق الأوسط، تتعامل الوثيقة الجديدة مع المنطقة بوصفها “إقليما تراجعت ضروريته الإستراتيجية للولايات المتحدة”، على الرغم من أنها لا تفقد أهميتها بالكامل. يعزى هذا التراجع إلى انخفاض حاجة واشنطن إلى نفط المنطقة، مع تحولها إلى منتج ومصدر للطاقة. وتصف الإستراتيجية الشرق الأوسط بأنه “مكان للشراكة والصداقة والاستثمار”، وهو اتجاه ينبغي الترحيب به وتشجيعه.
المصالح الحيوية في المنطقة
على الرغم من التقييم المتجدد، تؤكد الإستراتيجية أن إمدادات الطاقة العالمية، وأمن إسرائيل، وحرية الملاحة عبر مضيق هرمز وباب المندب والبحر الأحمر، ما زالت تُعتبر “مصالح حيوية” تتطلب حضورا عسكريا وسياسيا أميركيا. كما تعترف الإستراتيجية بتعقيد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، لكنها تشيد بجهود ترامب نحو السلام من خلال اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزة. وتعتبر إيران “تهديدًا يجب احتواؤه لا استئصاله”.
أمريكا اللاتينية: “مجال نفوذ حصري”
تضع الإستراتيجية الجديدة للأمن القومي أمريكا اللاتينية والكاريبي في مرتبة متقدمة على بقية الأقاليم، معتبرة أن القرب الجغرافي يجعل الاستقرار في هذه المنطقة امتدادًا مباشرًا للأمن القومي الأمريكي. تعتمد الوثيقة على إعادة إحياء مبدأ مونرو، الذي يرفض أي تدخل أو توسع للقوى الأوروبية في الأميركيتين. وتحذر الإستراتيجية من محاولات الصين وروسيا بناء نفوذ اقتصادي أو أمني في أمريكا الجنوبية والكاريبي، وتربط ذلك بمخاطر على الأمن الداخلي الأمريكي.
الصين: منافس اقتصادي وتكنولوجي
تبدلت زاوية النظر إلى الصين في الإستراتيجية الجديدة، حيث لا تقدم العلاقة مع بكين على أنها مواجهة أيديولوجية، بل كعلاقة تعتمد على رهانات طويلة الأمد في الاقتصاد والصناعة والتكنولوجيا. تعتبر الإستراتيجية أن التحدي الصيني يكمن في “اختلال ميزان القوة الاقتصادية”، وتسعى إلى إعادة تشكيل العلاقات الاقتصادية بحيث لا تعتمد الولايات المتحدة على الصين في صناعاتها. وتشدد على ضرورة ردع أي محاولة صينية لفرض أمر واقع جديد بشأن تايوان.
أوروبا: دعوة إلى تحمل المسؤولية
تعتمد الإستراتيجية لغة هجومية غير معتادة تجاه الحلفاء الأوروبيين، وتصف القارة بأنها تعاني من “شيخوخة ديموغرافية” و”أزمة هوية”. وتدعو الأوروبيين إلى تحمل المسؤولية الرئيسية عن دفاعهم، ورفع الإنفاق العسكري، وتشكك في جدوى التوسع المستمر لحلف شمال الأطلسي (الناتو). وتلمح إلى أن دور واشنطن لن يبقى “مظلة مفتوحة” بلا شروط.
تداعيات الإستراتيجية على السياسة الخارجية الأمريكية
تجسد الإستراتيجية الجديدة للأمن القومي صياغة مكتملة لعقيدة “أمريكا أولاً”، حيث يُعاد ترتيب سلم الأولويات لوضع أمن الحدود وإعادة بناء الطبقة الوسطى وتعزيز القاعدة الصناعية والتكنولوجية في صدارة الاهتمامات. يتضح ذلك في التركيز على نصف الكرة الغربي، والسعي إلى منع أي اختراق صيني أو روسي، مع إشارة واضحة إلى استعداد واشنطن لتوسيع حضورها البحري والعسكري في أمريكا اللاتينية والكاريبي. هذا التحول في الأولويات يمثل إعادة تعريف لدور الولايات المتحدة في العالم، ويحمل تداعيات كبيرة على السياسة الخارجية الأمريكية في السنوات القادمة. السياسة الخارجية الأمريكية ستشهد تحولا كبيرا في ظل هذه الإستراتيجية الجديدة.















