دمشق- إلى الجنوب من العاصمة دمشق، عند النهاية التي تؤدّي لمدينة جرمانا أو طريق المطار، يجثم بناء ضخم من 7 طوابق يُسمى “فرع الأمن العسكري 235” أو كما يُعرف في الموروث السوري “فرع فلسطين” يجاوره فرعٌ أمنيٌّ آخر صغيرٌ يُسمى “فرع الدوريات 216”.

وقد تأسّس هذا المقر الأمني منتصف الستينيات تقريبا، وتنقّل بين مواقع عدّة قبل استقراره في موقعه الحالي -كما تقول الروايات- مع بدء الثورة السوريّة عام 2011.

وتتكوّن هيكلية الأمن في سوريا كالتالي: مكتبٌ تابع لقسمٍ أحد أفرع الأمن، والذي يتبع بدوره لجهاز الأمن. والمُثبت أن فرع الأمن العسكري كان عام 1976 في مقر الأركان العسكرية، وشيّد مبنىً جديد له عام 1986. وحسب البحث كان الفرع أو أحد مكاتبه بمنطقة المربّع الأمني خلال الثمانينيات. والمؤكّد أن “مكتب ضابطة الفدائيين” التابع لفرع فلسطين كان يوجد في “فرع الخطيب” التابع لجهاز أمن الدولة خلال الفترة نفسها.

وتعدّ فترة الثمانينيات بداية صعود الفرع بعد أن ترأسّه ضابط قويّ زاد من سطوته وتوسّع في مهامه. وكان الغرض منه متابعة شؤون الجماعات الفلسطينية وجيش التحرير الفلسطيني، والشأن الفلسطيني سياسيًّا وأمنيًّا وعسكريًّا.

وعُرف عن هذا الفرع التوحّش في أساليب التعذيب بداخله، وبالشروط غير الآدمية لاحتجاز المعتقلين به، كما قيل الكثير عن الاستعانة به للتحقيق مع “معتقلين جهاديين” كانوا قد زُجوا به بعد توقيفهم لدى الأميركيين، ليكون اسمه مرادفًا للرعب.

وركّز الفرع خلال بدايات الثورة السورية على سكان القطّاع الجنوبي من مدينة دمشق، بالذات الأحياء الثائرة مثل الميدان والقدم ودفّ الشوك ومخيم اليرموك بطبيعة الحال.

تغيّرات حديثة

اعتُقلتُ بهذا الفرع عام 2013، وأمضيتُ به 73 يومًا، قبل تحويلي إلى “محكمة الإرهاب” وإيداعي السجن المركزي في عدرا بريف دمشق. واتُهمت مثل كثيرين بـ”الترويج لأعمال إرهابية وتمويلها”.

وكنت في سن الـ23 طالبًا جامعيًّا، معدوم الدخل. وكان الوقت صيفًا، وكلّ ما سيأتي يُعتبر هيّنًا عند مقارنته بما يحصل شتاءً.

وبعد سيطرة المعارضة على دمشق، وصلت لهذا الفرع، وبدت بداخله تغييرات ملحوظة، إذ توجد كاميرتان في كلّ مهجعٍ جماعي، وآثارٌ علبٍ بلاستيكية في بعض المهاجع (في الغالب هي علب لبن رائب) ورسوماتٌ وكتاباتٌ على الجدران حُفرت بالأظافر أو بذور الزيتون، كما يوجد مخلفاتٌ لنذرٍ يسير من المرهم الذي يعالج الجرب.

وهذا التحسّن في الوضع قبل عشر سنوات، يُردّ بحسب المتداول إلى “تنازلات” قدّمها النظام البائد للهيئات الدولية للتخفيف من هول الظروف في معتقلات الأفرع الأمنية، وتلقّى مقابلًا مادّيًا على كل معتقل.

وتصعب الحركة الآن في أقبية الاعتقال بعد تعطل الصرف الصحّي وامتلاء بعض الممرّات والمهاجع بالماء الآسن، وهذه إحدى المهام التي كان المعتقلون يؤدّونها في ما يُعرف “بالسُخرة”.

المكاتب الإدارية

يتألف البناء من جناحين يصلهما ممّرٌ في كلّ طابق، جناحٌ كبير يضم مكاتب على طرفي الممر، والثاني أقلّ حجمًا وتنتشر مكاتبه على طرفٍ واحد من الممر. ويحتوي الطابق بين 23 و27 غرفة، بحسب مساحات المكاتب.

وهناك أقسامٌ للديوان والقلم، كأيّة مؤسسةٍ حكومية، وبعض مكاتب المحقّقين والضبّاط التي تزداد حجمًا ويبدو أثاثها أعلى جودةً كلّما صعدنا طابقًا لأعلى. وأغلب المكاتب الكبيرة تمتلك بابين، وتحتوي حمّامًا خاصًّا، وقسمًا وراء ستارة يٌخصّص للمبيت على ما يبدو بسريرٍ وخزانة للثياب.

وقد حدث تخريبٌ كبير للطابقين الأول والثاني خاصة، حيث أُحرقت كثيرٌ من الملفات، ويُرجّح أن الحريق التهمها صبيحة مغادرة الأسد البلاد. وإحدى الغرف كانت لا تزال بحرارةٍ عالية مقارنة بغيرها بسبب رماد الحريق، وهناك بعض الآثار لمادة غباريةٍ بيضاء برائحة كريهة ربما استُخدمت لإذكاء النار.

ووجت جميع الأدراج مفتوحة وقد احترق محتواها، ويُرجّح أن الحريق افتُعل من المخبرين الذين قدّموا كثيرًا من التقارير الأمنيّة عن المواطنين أثناء عمليات السرقة التي سبقت وصول قوّات “ردع العدوان” إلى العاصمة.

وفي الطوابق العليا، لا تزال الملفات موجودةً وبكمّيات ضخمة، لكنّها تقتصر بمعظمها على بيانات المعتقلين وأسمائهم، أو سجّل المذكرات الأمنية، وبعض المراسلات الخارجية والداخلية.

أحمد إبراهيم_دمشق_سوريا_17-12-2024_ الجزيرة نت يتم تصوير كل معتقل ويوضع اسمه على الصورة، بعض الصور التي لا تزال معروضة في فرع فلسطين حتى

زنازين النساء

في الطابق الأرضي يوجد 3 غرف على الأقل يتضح أنّها خُصّصت لاحتجاز النساء، ضيّقة لكنها أحسن حالًا من المنفردات والجماعيّات في القبو، وتُركت البطانيّات وبعض الثياب فيها.

واستُعلمت الممرات في هذا الطابق وغيره كمكان للتحقيق وتعذيب الموقوفين، مما يضفي عاملًا ترهيبيًّا للمحتجزات بحضور صرخات من كانوا في جوارهن. ويحتاط العناصر والمحققون إجمالًا في تسجيل أرقام المعتقلين بدل أسمائهم خشية تسريبها في حال خروج معتقلة أو معتقل تناهى له اسم غيره من المعتقلين، وذلك جزء من مسار التغييب القسري حيث يترك ذوو المعتقلين بدون دلالةٍ عن مكان وجودهم.

أحمد إبراهيم_دمشق_سوريا_17-12-2024_ الجزيرة نت لم يبقى إلّا الرماد، درجة حرارة الغرفة أعلى من محيطها، وقد احترقت كامل ملفاتها (فرع فلسطين)

الروتين

يقضي المعتقل يومه الأول في “التشميسة” ريثما يتم فرزه إلى مهجعٍ جماعيّ أو منفردة، ويمتلك الفرع في قبوه مساحتين للتشميس، وهي فسحة سماوية يسقفها سياجٌ معدني، تخترقها الشمس ويصل لها صوت الأذان.

ولكلّ معتقلٍ رقم وفقًا للمهجع الذي يوضع فيه، مثلًا (33 على 2 جماعي) أي المهجع الثاني، المعتقل رقم 33. هناك حمّامات في القبو، وقد دأب السجّانة على إخراج المعتقلين إليها مرّة واحدة في الصباح، مع جرعة من الضرب والسُباب، ولمدّة لا تتجاوز الدقيقة، بالذات لمن هم في التشميسة أو المنفردات، حيث لا تحتوي حمّاماتٍ خاصة مثل المهاجع الجماعية.

وترتهن حركة المعتقلين في الممرات بإحناء الرأس وعدم النظر للمحيط، وعند التحقيق يضع المعتقل “طمّاشة” على عينيه، وتُشدّ بقسوة على الرأس، وبحسب الموروث فإنّ من لا “تتطمش” عيناه عند التحقيق، يمتلك فرصًا أقلّ بالخروج.

ومن المهم التذكير أن المنفردات -كما تسمّى- غير مخصّصة لشخصٍ واحد، بل كانت تجمع أعدادًا تجاوز 5 معتقلين، وتصل لأكثر من 10 في بعض الحالات، مما يؤدّي للبقاء وقوفًا وتبادل أدوار النوم والجلوس.

أمّا المنفردة لشخص واحد، فهي في الغالب كابينة مرحاض فقط، مع حرمانٍ من الطعام والنوم، وعدم القدرة على إدراك الأيّام. وخُصّصت هذه الأقسام للمتهمين “الخطيرين” أو المتهمين بإثارة الشغب في الجماعيّات.

أحمد إبراهيم_دمشق_سوريا_17-12-2024_ الجزيرة نت أدعية ورزنامة محفورة على جدار أحد المهاجع في فرع فلسطين

الجماعيّات

الصفوف الأولى الأقرب للبوابة تحظى ببعض البطانيّات، وتتركّز قربها الأدوية وعبوات تدلّل على الطعام. ويترأس كلّ مهجع شاويشٌ يكون من المعتقلين، وهو مسؤولٌ عن التواصل مع السجّانة، كطرق البوابة في حال الوفاة، أو طلب دواء كان لا يتم توفيره في معظم الحالات، ويقود لمعاقبة الشاويش.

ويتولّى فريق الشاويش إدخال الطعام وإخراج النفايات، كما ينظّم أحدهم دخول المعتقلين إلى الحمّام، في كلّ مهجعٍ حمّام ضيّق في الزاوية اليسرى، ويحتوي صنبورين للماء، يُستخدمان للشرب والغسل رغم تلوثهما وطعمتهما الواضحة، إضافةً لفتحة المرحاض، ويُستعمل الحمّام مثنى مثنى، لوقتٍ قصير جدًا.

وكان الشاويش مسؤولا عن تحضير المعتقل الذي يُنادى برقمه للتحقيق أو الإفراج أو التحويل، وكذلك تأكيد عدد المعتقلين في المهجع نهاية كلّ يومٍ، وفي حال لم يحضر المعتقل أو نسي رقمه فالعقوبة جماعيّة.

وكذلك يحضر الشاويش باستمرار 5 معتقلين ليتعرّضوا لعقوبة السجّانين في حال كان هناك صوتٌ مرتفع، أو مخالفاتٌ تتعلق بالصلاة، أو شجار، وأحيانًا كان يتطوع هؤلاء فداءً للمهجع من عقوبة جماعيّة.

وقد سارت “حفلات التعذيب” هنا دون صراخ، كي لا يُعرف في المهاجع الأخرى أن هناك عقوبة تجري، وبالتالي كان يتقدّم كل شاويش بالمخالفين عنده بصمت، ليتفادوا إثارة بقية المهاجع. وكان هذا على عكس ما روي عن “نصائح” يسمعها المعتقل للصراخ بأقصى ما استطاع خلال التعذيب المرتبط بالتحقيق.

وتمنع الصلاة وقوفًا أو جماعة، ويُمنع أن يصلّي اثنان قرب بعضهما جلوسًا حتى، وإلّا فالعقوبة جماعيّة. ولا يرتدي المعتقل ثيابه، بل يضعها في كيس نايلون يُشكّل وسادته التي تزيد من تعرّقه ليلا، وربما يحميه من القمل الذي يعشّش في الثياب، ويترك بيضه في الجروح الناتجة عن التعذيب.

وعند فتح بوابة المهجع أو فتح الشرّاقة (نافذة صغيرة في كلّ بوابة) يجب عدم النظر نحو السجّان، لكن الغالب هو التواصل الصوتي من خارج البوابة، لاستدعاء معتقلٍ إلى التحقيق، أو للتصوير (لكل معتقلٍ صورة بعد فرزه إلى مهجع، ويُمهر عليها اسمه) وأحيانًا نادرةً لزيارة الطبيب.

طرق التعذيب

انطوى التعذيب في “فرع فلسطين” على طيفٍ واسع من صعق الكهرباء إلى الضرب بالكوابل الكهربائية (الكابل الرباعي يحوي داخله أسلاكا معدنية) بالإضافة للشبح (تعليق الموقوف من يديه ساعات طويلة دون أن تصل رجلاه إلى الأرض).

أما أسلوب “الأخضر الإبراهيمي” كما سُمّى في هذه الأفرع الأمنية، فهو أنبوب بلاستيكيّ أخضر يستعمل في تمديدات المياه، وزنه خفيف، ويسبب الضرب به ألمًا شديدًا. وبين كلّ هذا يُصبح إطفاء السجائر في جسد المعتقل تفصيلًا ليس ذا أهمّية.

أحمد إبراهيم_دمشق_سوريا_17-12-2024_ الجزيرة نت تدمير بعض الملفات في الطوابق العليا لفرع فلسطين تم باستخدام فرّامة الأوراق

التناقل المشفّر

مع أن وقت المعتقل رتيبٌ، إلّا أن هناك مناسبات خاصّة كانت تملأ أيّامه، من التحقيق إلى بصمه على أوراقٍ دون معرفة أقواله، وكيفية قضاء أيّام العيد، ومعرفة وقت الإفطار في رمضان، وعواقب أكل الطعام القليل الملوّث على صحة المعتقلين، و”التسييف” وهي طريقة نوم المعتقلين في المهاجع المكتظة، وتحلّقه حول أي قادمٍ جديد ليسأله عن أي أمل يفرّج الكرب، وعن الأسعار، وعن أي خبرٍ جديد.

وقد استخدم معتقلو الأفرع الأمنية التشفير وأوصافا غريبة لتناقل أرقام ذويهم وعناوينهم، وتبادلها فيما بينهم، لتصبح أكثر الجمل التي يستخدمها ذوو المغيبين قسريًّا أنه وصلهم خبر عن وجوده في فرعٍ أو سجنٍ ما عام كذا. وقد ساهمت وجوهٌ معروفة في نقل هذه الأخبار لشرائح أوسع، كما فعلت الممثلة يارا صبري ضمن حملتها “بدنا ياهن، بدنا الكل”.

شاركها.
اترك تعليقاً

2024 © السعودية خبر. جميع حقوق النشر محفوظة.