في ظل التوترات المتصاعدة في المنطقة، وتحديداً مع استمرار الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، تتكشف تفاصيل جديدة حول الدعم الذي تتلقاه إسرائيل، ليس فقط من خلال المساعدات الحكومية المعلنة، بل أيضاً عبر شبكات تمويل معقدة تنشط في الخفاء. كشف تقرير صادر عن وكالة الأناضول عن دور محوري تلعبه جهات أمريكية غير حكومية في دعم الاستيطان الإسرائيلي في الضفة الغربية المحتلة، بما في ذلك القدس الشرقية. هذا الدعم، الذي يتميز بالسرية والغموض، يثير تساؤلات حول مدى التزام الولايات المتحدة بسياسات تعتبر الاستيطان غير قانوني، ويضع علامات استفهام حول دورها في الصراع.
الصندوق المركزي الإسرائيلي: واجهة التمويل الخفية
يشكل “الصندوق المركزي الإسرائيلي” (Central Fund of Israel) أبرز اللاعبين في هذا المشهد. تأسس الصندوق في عام 1979 في حي مانهاتن بمدينة نيويورك على يد الزوجين هداسا وآرثر ماركوس، وقام بتأسيسه عبر شركة نسيج كـ”منظمة غير ربحية”. اليوم، يدير الصندوق غاي ماركوس، ابن المؤسسين، بالتعاون مع شقيقه إيتمار. وبحسب تقارير صحفية إسرائيلية، ينقل غاي ماركوس سنوياً ملايين الدولارات إلى إسرائيل لتمويل البناء الاستيطاني.
آليات التمويل السرية
يعمل الصندوق بنظام يسمح بتدفق التبرعات الأمريكية إلى إسرائيل دون قيود بيروقراطية أو ضرائب، مستغلاً ثغرات قانونية وقانونية. وهو يتبنى شعاراً واضحاً: “كل ما تقدمه (المتبرع) هو ما يحصلون عليه (في إسرائيل) دون أي خصومات”، مما يعكس التزامه بنقل الأموال بكاملها إلى وجهتها. ويفتخر الصندوق بدعم أكثر من 504 جمعية ومنظمة في إسرائيل. لماذا السرية؟ ورغم الإشادة التي يحظى بها لدعمه “أعمال خيرية”، إلا أن المصادر الحقيقية لتمويله تظل طي الكتمان، وهو ما يثير الشكوك ويدعو إلى مزيد من التدقيق.
مدى الدعم المالي للاستيطان
تتراوح تقديرات حجم التمويل الذي يقدمه الصندوق والمؤسسات المماثلة بشكل كبير، ولكنها تتجاوز بشكل عام عشرات الملايين من الدولارات سنوياً. ففي عام 2024 وحده، تم التبرع بنحو 95 مليون دولار لجمعيات ومنظمات إسرائيلية عبر الصندوق. وفي عام 2023، تلقت 375 منظمة أكثر من 5 آلاف دولار لكل منها، وتلقت 505 جمعيات إجمالاً 96 مليون دولار، منها 41 مليوناً مخصصة للمجتمع و35 مليوناً للخدمات الاجتماعية والإنسانية.
بالإضافة إلى ذلك، أفادت صحيفة “يديعوت أحرونوت” بوصول أكثر من 100 مليون دولار تبرعات أمريكية علنية إلى إسرائيل خلال العقد السابق، بينما قدرت صحيفة “ذا ماركر” تحويل الصندوق وحده لـ 100 مليون دولار سنوياً إلى منظمات يمينية في إسرائيل. هذه الأرقام الكبيرة، وعدم الشفافية المحيطة بها، يثيران قلقاً بالغاً حول تأثير هذا التمويل على مستقبل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
أهداف التمويل وتداعياته الخطيرة
لا يقتصر تمويل الصندوق على البناء الاستيطاني المباشر فحسب، بل يمتد ليشمل دعم التعليم الديني اليهودي المتطرف، وتقديم المساعدة المالية لعائلات المستوطنين المتورطين في جرائم إرهابية ضد الفلسطينيين. هذا يشير إلى أن الهدف ليس مجرد توسيع المستوطنات، بل تعزيز أيديولوجية متطرفة تدعم الاستمرار في الاستيطان وتفاقم التوتر في المنطقة.
هذا الدعم المالي يعزز بشكل مباشر التوسع الاستيطاني في القدس الشرقية والضفة الغربية، وهي أراضٍ محتلة بموجب القانون الدولي. وتشير التقديرات إلى وجود أكثر من 700 ألف مستوطن إسرائيلي في الضفة الغربية، يمارسون اعتداءات يومية على الفلسطينيين بهدف إجبارهم على ترك ديارهم.
دعم منظمات متطرفة
يتجاوز تمويل الصندوق دعم المستوطنات نفسها ليشمل منظمات متطرفة مثل “إم ترتسو” التي تدعو إلى طرد العرب من الجامعات الإسرائيلية، وحركة “نساء بالأخضر” التي ترفض اتفاقيات أوسلو للسلام، ومنظمة “هانونو” التي تقدم الدعم القانوني والمالي للمتطرفين اليهود المتهمين بجرائم كراهية. هذا الدعم يساهم في تأجيج التطرف والعنف، ويعيق أي جهود لتحقيق سلام عادل ودائم.
الاستيطان: انتهاك للقانون الدولي وتأثيره على حل الدولتين
تعتبر الأمم المتحدة الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي الفلسطينية المحتلة غير قانوني، وتدعو إلى وقفه منذ عقود. ومع ذلك، استمرت إسرائيل في بناء المستوطنات وتوسيعها، خاصة في ظل الحرب الجارية في قطاع غزة. هذا التوسع الاستيطاني يهدد بشكل مباشر إمكانية إقامة دولة فلسطينية مستقلة على حدود ما قبل عام 1967، ويعيق أي حل سياسي للصراع.
منذ بداية الحرب في غزة، قتل الجيش الإسرائيلي والمستوطنون في الضفة الغربية أكثر من 1085 فلسطينياً وأصابوا الآلاف، مما يعكس تصاعد العنف والتدهور في الأوضاع الإنسانية. إن استمرار دعم الاستيطان، سواء من خلال المساعدات الحكومية أو التمويل الخاص، يرسل رسالة خطيرة مفادها أن المجتمع الدولي لا يزال يتسامح مع الانتهاكات الإسرائيلية للقانون الدولي وحقوق الإنسان.
في الختام، يكشف تقرير الأناضول عن جانب مظلم من الدعم الذي تتلقاه إسرائيل، وهو الدعم المالي السري الذي تقدمه جهات أمريكية غير حكومية للاستيطان. هذا التمويل يساهم في تعزيز التطرف والعنف، ويعيق فرص السلام، ويهدد إمكانية إقامة دولة فلسطينية مستقلة. من الضروري إجراء تحقيق مستقل وشفاف حول هذه الشبكات التمويلية، واتخاذ الإجراءات اللازمة لوقفها وضمان احترام القانون الدولي وحقوق الإنسان. هذا الأمر يتطلب ضغوطاً دولية متزايدة على الولايات المتحدة، وشفافية أكبر من قبل المؤسسات الأمريكية المتورطة في دعم الاستيطان.















