أدّى الإخوة أبناء بربروس في تاريخ الدولة العثمانية وشمال أفريقيا في القرن السادس عشر دورا عظيما في حماية مسلمي الجزائر وتونس بل ومسلمي الأندلس المضطهدين.

كما أدّى خير الدين دورا كبيرا في تنمية وتطوير البحرية العثمانية وزيادة نفوذها في غرب البحر المتوسط في وقت كان الإسبان والبرتغاليون والإيطاليون فيه يحتلون مدن تونس والمغرب والجزائر فضلا عن اضطهادهم للموريسكيين في الأندلس، لذا كان ظهور الإخوة أبناء بربروس بمثابة طوق النجاة للمسلمين في تلك المرحلة الحرجة.

ولد خير الدين، تقديريا، في جزيرة ميديللي عام 1478م، ونشأ في أسرة بحرية كان والدها من فرسان الدولة العثمانية، وله ثلاثة إخوة هم إسحاق وعروج وإلياس، وتلقى تعليما دينيا في صغره، ورافق أخاه عروج في التجارة بين الجزر العثمانية، ثم في أعمال البحر والتنقل بسفن صغيرة لجلب البضائع، وقد ظهرت ميولهما البحرية في سن مبكرة، وكانت ميديللي في بحر إيجة قاعدة انطلاقهما نحو عالم البحر والسياسة.

الانطلاق صوب تونس

تعرض الأخوان لتجارب قاسية في بداية حياتهما البحرية، إذ قُتل إلياس أثناء اشتباك مع فرسان رودس، وأُسر عروج واقتيد إلى الجزيرة نفسها وبعد فترة من العذاب استطاع الهروب واستأنف نشاطه من الإسكندرية حيث التحق بخدمة السلطان المملوكي قانصوه الغوري، ثم بالأمير العثماني قورقود الذي أهداه سفينتين ودعمه في مهمته لمساعدة مسلمي الأندلس.

ولكن مع صعود السلطان سليم الأول إلى حكم الدولة العثمانية اضطر عروج إلى مغادرة الأناضول متجها إلى شمال أفريقيا، حيث بدأت المرحلة الجديدة من مسيرته هو وشقيقه خير الدين، في مواجهة الإسبان والإيطاليين الذين كانوا يحتلون المدن الإسلامية في شمال أفريقيا، ويعملون في القرصنة والهجوم على سفن المسلمين المختلفة.

ولهذا قرر الأخَوان الانتقال إلى العاصمة التونسية للتوسع في العمل البحري، فدخلا على السلطان الحفصي أبي عبد الله محمد المتوكل، وطلبا منه الإذن في استخدام ميناء حلق الوادي قاعدة لانطلاقهما مقابل نسبة من الغنائم، وقد وافق السلطان على العرض ومنحهما تسهيلات في الميناء، مما مكّنهما من تثبيت نفوذهما في نقطة إستراتيجية على الحوض الغربي للبحر المتوسط، قريبة من السواحل الأوروبية الكبرى.

أمضى الأخوان ومن رافقهم من البحارة شتاء 1513-1514 في حلق الوادي، ثم بدؤوا غزوات جديدة في الربيع شملت جزيرة سردانيا، حيث استولوا على سفينة تحمل مئة وخمسين أسيرا، ثم سفينة أخرى محملة بالقمح، وسفينتين إضافيتين تحملان موادّ غذائية ومعدنية، وعادوا إلى قاعدتهم، وتشير بعض المصادر إلى أنهم استولوا كذلك على سفينتين كبيرتين تابعتين للبابا يوليوس الثاني، مما ساهم في تعزيز سمعة عروج في الأوساط الأوروبية.

هذه النجاحات العسكرية والبحرية رفعت من شأن الأخوين، ورسّخت حضورهما بوصفهما قوة بحرية ناشئة في غرب المتوسط، وقد ساعد موقع تونس الإستراتيجي ومرونة الدولة الحفصية في توفير بيئة مواتية لانطلاق مشروعهما البحري، الذي سيشكل لاحقا بداية النفوذ العثماني في شمال أفريقيا، ومواجهة النفوذ الإسباني والبابوي في تلك المرحلة الحاسمة من تاريخ المتوسط.

بعد أن أمضى الأخوان شتاء عام 1513 في تونس، انطلقا في ربيع العام التالي نحو نابولي في جنوب إيطاليا حيث خاضا مواجهة بحرية كبيرة ضد سفينة إسبانية ضخمة كانت تقل مئات الجنود، وأسفرت عن نصر بحري كبير رغم الخسائر البشرية في صفوفهم، وقد غنم الأخوان السفينة وعادا بها إلى تونس.

لكن هذا الانتصار أثار حنق الإسبان، الذين أرسلوا أسطولا من عشر سفن لاعتراضهما، فاندلعت مناوشات بحرية عنيفة قبالة سواحل بجاية انتهت بسيطرة الأخوين على أربع سفن وفرار الباقي، غير أن الخلاف دبّ بين عروج وخير الدين بشأن مهاجمة المدينة، حيث فضّل الأول التوسع البري، بينما آثر الآخر الاكتفاء بما تحقق.

في ربيع عام 1515 انطلق ابنا بربروس ومن معهم من تونس في حملة بحرية واسعة شملت سواحل صقلية، حيث نفذوا عدة عمليات بحرية واستولوا على سفن إسبانية محمّلة بالبضائع والعتاد الحربي، ولم تكن هذه التحركات مجرد أعمال بحرية منعزلة، بل جاءت ضمن إستراتيجية أوسع لإضعاف النفوذ الإسباني وحماية مسلمي الأندلس الذين كانوا يتعرضون لاضطهاد وحشي بعد سقوط غرناطة، وهو ما عبّر عنه خير الدين بربروس في مذكراته، مشيرا إلى مآسي المساجد السرية تحت الأرض، ومعاناة المسلمين تحت نير محاكم التفتيش.

وبعدما اشتدت شوكتهم واستقلّوا بقوتهم في تونس، سعوا إلى التقرب من الدولة العثمانية وقد أرسل خير الدين بربروس إلى إسطنبول رسالة وهدايا إلى السلطان العثماني، فاستقبلها بحفاوة وأرسل بدوره دعمًا عسكريا وسفنا للإخوة البحارة، ولا شك أن هذا اللقاء مثّل لحظة مفصلية إذ أعاد تثبيت العلاقة بين القادة البحريين في شمال أفريقيا والباب العالي الأمر الذي أثار مخاوف السلطان الحفصي في تونس.

سنوات النشاط في الجزائر

في تلك الأثناء تحرك الأخوان نحو مدينة جيجل بالجزائر بعدما فشلا في السيطرة على بجاية، لا سيما في ظل الدعم الإسباني المتواصل للمدينة، ورأيا في جيجل موقعا إستراتيجيا لتحركاتهما المستقبلية بعيدا عن تبعية السلطان الحفصي في تونس الذي بدأ التضييق عليهما والتقرب من الإسبان.

وكانت جيجل خاضعة للاحتلال من قبل جمهورية جنوة الإيطالية، مما جعلها هدفا مناسبا لحملة عسكرية خاطفة بعد تنسيق محكم مع القبائل المحلية، وبنجاح تلك الحملة في السيطرة عليها تحوّلت جيجل إلى أول قاعدة مستقلة لهم في الجزائر، ومثّلت نواة التوسع البحري والسياسي الذي سيقود لاحقا إلى إدماج الجزائر في الدولة العثمانية.

في أعقاب الدعوة الملحّة التي وجّهها وفد من سكان بجاية إلى عروج وخير الدين بربروس، والتي حملت نداء استغاثة من ظلم الإسبان وتضييقهم على الشعائر الإسلامية، انطلقت حملة بحرية ضخمة قادها الأخوان نحو المدينة، وفي طريقهما تمكّنا من تحرير أربعين موريسكيا كانوا على متن سفينة تجارية، قبل أن يصلا إلى بجاية مزودين بعشرة سفن وأكثر من ألفي بحّار، ومئة وخمسين مدفعًا بحريا.

وقد استمرت المعركة لثلاث ساعات ونصف، وأسفرت عن مقتل أعداد كبيرة من الجنود الإسبان، والتحق بالحملة عشرون ألفا من رجال القبائل، إلا أن افتقار المجاهدين إلى المدافع الثقيلة حال دون اختراق أسوار القلعة التي تحصنت فيها بقايا الحامية الإسبانية.

Statue of Hayreddin Barbarossa in front of medieval tower with a Turkish flag, set against a vibrant blue sky in Kusadasi castle. Oct 19, 2023. Kusadasi, Aydin, Turkey (Turkiye)

كانت المحاولة الثانية لفتح بجاية في ربيع عام 1515، حين تقدّم عروج بجيش بري قوامه عشرون ألفا، بالتوازي مع حملة بحرية انطلقت من جيجل، وقد واجهت القواتُ صعوبات كبيرة، ورغم نجاحها في فرض حصار شامل على المدينة، فإنّ نقص البارود أضعف قدرتها على الاستمرار، خاصة بعد أن تلكّأ السلطان الحفصي في تونس في إرسال الدعم، وأجبر جفاف مياه وادي الصومام عروج على حرق السفن التي دخل بها الوادي، واضطر إلى الانسحاب بخسائر كبيرة، وقد قُدّر عدد القتلى والمصابين في صفوف الإسبان بنحو ألفي رجل.

لاحقا وفي أثناء تحصّن الإسبان في القلعة، وصلت تعزيزات بحرية، لكن خير الدين الذي كان قد رصد تحركاتهم، باغتهم بهجوم بحري ناجح أدى إلى الاستيلاء على كلّ الأسطول الإسباني، حيث استخدم السفن خدعةً عسكرية للتقدم نحو بجاية، وأوهم الحامية بوصول المدد، فانخدعوا وفتحوا الأبواب، ليقعوا في كمين انتهى بسيطرة المجاهدين على القلعة، وقد شكلت هذه المعركة منعطفا حاسما إذ توافدت القبائل المجاورة تبايع ابنَي بربروس، ورغم ذلك انتقلت بجاية لاحقا إلى السيطرة الإسبانية لعدة عقود قبل أن يتم تحريرها على يد العثمانيين عام 1555.

بالتزامن مع هذه التطورات بدأت وفود من مدن جزائرية متعددة تصل إلى ابنَي بربروس في جيجل تطلب مساعدتهما في التخلص من الاحتلال الإسباني وحلفائه من الأمراء المحليين، وكان أبرز هذه الوفود ذلك الذي قدِم من مدينة الجزائر، والذي طالب بطرد الإسبان من “حصن البنيون”، وهو موقع إستراتيجي مكّن العدو من التحكم في الميناء والمدينة.

وقد استجاب عروج لهذه الدعوة وتوجه نحو الجزائر العاصمة في حملة مشتركة برية وبحرية، وبقي خير الدين في جيجل، ومع نجاح دخول عروج المدينة استقبله السكان استقبالا حافلا، وأعلن نفسه حاكما للجزائر في خطوة مهّدت لتحول المدينة إلى قاعدة إستراتيجية للمجاهدين في مواجهة الإسبان.

خير الدين من القيادة إلى التقاعد

وبعد استشهاد عروج عام 1518، وجد خير الدين نفسه في مواجهة واقع قاسٍ يتطلب الصبر والمضي في مسار المقاومة، ولم يكن هناك مجال للحزن أو التردد، بل رأى أن مهمته تستوجب الاستعداد والتخطيط لاجتياز المرحلة الحرجة، حيث أمضى شتاءه في إصلاح أسطوله وتجهيز مدافعه دون أن يترك لنفسه فرصة للتفكير في فقد أخيه، خاصة أن التهديدات الأوروبية وعلى رأسها تهديد الإمبراطور شارلكان لم تتوقف، حيث أرسل إليه مبعوثا يحمل رسالة مليئة بالتحدي والاستعلاء، يدعوه فيها إلى مغادرة الجزائر، ويهدده بأسطول ضخم سيدمّره.

لم يرضخ خير الدين لهذا الإنذار، بل اعتبره إهانة تستوجب الرد، وكتب لشارلكان رسالة شديدة اللهجة، سرعان ما تبعتها تحركات عسكرية، حيث أرسل الإمبراطور أسطولا ضخما بمشاركة أمراء من نابولي وصقلية وألمانيا، بلغ عدده أربعين سفينة وأكثر من خمسة آلاف مقاتل ورست السفن قبالة الجزائر، وبدأ الإسبان إنزال قواتهم على الساحل.

إلا أن خير الدين الذي كان قد توقّع الهجوم أعد خطة حربية دقيقة سمحت له بمحاصرة القوات المهاجمة بعد إنهاكها، ثم باغتهم بهجوم خاطف من جهتَي البحر والبر، وانتهت المعركة بانتصار ساحق؛ غرق فيه الآلاف من الجنود الإسبان، واستسلم آلاف آخرون.

بعد أن استقرت الأمور في الجزائر، ركّز خير الدين على استعادة سيطرته على المناطق الداخلية والغربية، وكان من أبرزها منطقة تلمسان، وفيها واجه الأمير عبد الله الزياني حيث التقى الطرفان في مازونة، ونجح خير الدين في تشتيت قوات عبد الله وقتله، وسلّم محمد بن الأمير عبد الله الضرائب للبحارة، وعقب ذلك وجّه خير الدين أسطوله البحري تحت قيادة سنان ريس في حملات بحرية ناجحة، عاد منها بغنائم متنوعة شملت بارودا وأسلحة وموادَّ غذائية دون أن تفقد أي سفينة من الأسطول.

شهدت مرحلة ما بعد تصاعد الهجمات الإسبانية على سواحل شمال أفريقيا تحولا إستراتيجيا في السياسة البحرية العثمانية، إذ تنبّه السلطان سليمان القانوني إلى الخطر المتزايد الذي تمثله البحرية الإسبانية بقيادة الأميرال الإيطالي أندريا دوريا، خاصة مع تنامي أطماع الإسبان في تونس والجزائر والمغرب، وقد رأى السلطان أن الوقت قد حان لتأمين وجود بحري فاعل في البحر المتوسط يوازي نفوذ العثمانيين البري في أوروبا وآسيا.

 وعندما اطّلع على النجاحات الكبيرة التي حققها خير الدين باشا بربروس ضد الإسبان وحلفائهم في غرب المتوسط، قرّر استدعاءه إلى إسطنبول عام 940هـ/1533م، ليمنحه قيادة الأسطول العثماني كاملا. وفي أولى مهامه، انطلق خير الدين بأسطول الدولة إلى السواحل الإيطالية لمواجهة الإسبان، لكن تغيّر مسار الأحداث دفعه إلى التوجه نحو تونس التي ضمّها إلى الدولة العثمانية بعد مواجهة قصيرة، مما أثار حاكمها مولاي حسن الحفصي فاستنجد بالإمبراطور شارلكان الذي أرسل قوة ضخمة بقيادة دوريا تمكنت من احتلال تونس مجددًا.

ولهذا السبب وبهدف إضعاف القوة العسكرية الإسبانية في البحر المتوسط، قرر السلطان سليمان القانوني الدخول في تحالف مع فرنسا التي كانت على عداوة مع إسبانيا في ذلك الحين، وكان ملكها قد وقع أسيرا عند شارلكان في مدريد، وقرر السلطان سليمان القانوني إرسال حملة بحرية ضخمة لتأديب الإسبان وطردهم من مناطق مختلفة من إيطاليا وفرنسا.

وفي ربيع عام 950هـ/1543م أبحر الأسطول العثماني بقيادة خير الدين بربروس من إسطنبول بـ154 سفينة حربية بين كبيرة ومتوسطة، وعلى متنها نحو ثلاثين ألف جندي، وتوجه الأسطول نحو السواحل الإيطالية، وهنالك تمكن من السيطرة على مدينتي مسّينا في صقلية وريجيو قرب نابولي دون أن يُلحق أذى بالسكان، مكتفيا بتحطيم التحصينات العسكرية.

Kheyr-Ed-Din Barbarossa / Hayreddin Barbarossa or Barbarossa Hayreddin Pasha / Khizr. (Barbarossa means Redbeard in Italian). Ottoman admiral who dominated the Mediterranean. c. 1478 – 4 July 1546. Served Sultan Suleiman the Magnificent (Photo by Culture Club/Getty Images) *** Local Caption ***

وعقب ذلك رسا الأسطول في ميناء أوسيتا لتلبية الاحتياجات اللوجستية، ثم واصل مسيره إلى السواحل الفرنسية، حيث بلغ مدينة مرسيليا في يونيو/حزيران من العام نفسه، وهناك استقبل الفرنسيون بربروس بحفاوة بالغة، وأمر الملك هنري بن الملك فرنسوا الأول الذي أسره الإسبان من قبل بدمج الأسطول الفرنسي المؤلف من 44 سفينة مع القوة البحرية العثمانية، تحت القيادة العليا لبربروس.

وبعد وضع خطة العمليات، توجه بربروس باشا نحو مدينة نيس الواقعة تحت سيطرة دوق صاوا، التابع للإمبراطور الإسباني شارلكان، وخضعت المدينة لحصار مشترك من القوات الفرنسية والعثمانية استمر عدة أسابيع، انتهى باستسلامها يوم 20 أغسطس/آب من ذلك العام، ولم تنتهِ مهام بربروس عند هذا الحد، بل مكث في ميناء طولون طوال شتاء ذلك العام، بموجب اتفاق رسمي أتاح للعثمانيين إدارة المدينة مؤقتا، مع انسحاب الموظفين الفرنسيين ورفع الأذان فيها بشكل منتظم، كما جُمعَت الضرائب من السكان لصالح نفقات الأسطول.

ومع حلول الربيع التالي انطلقت الحملة المشتركة نحو السواحل الإسبانية وجزيرة سردينيا التابعة لشارلكان، وقد استفادت فرنسا من وجود العثمانيين لتحقيق مكاسب إستراتيجية على الأرض. وفي عام 951هـ/1544م، عاد بربروس إلى إسطنبول بعد أن بثّ الذعر في قلوب الإسبان والإيطاليين، واستعاد العديد من المدن الفرنسية لصالح الحليف الأوروبي.

في ربيع عام 1544م، عاد خير الدين بربروس ليشن هجمات جديدة على السواحل الإيطالية، فاستهل حملته بغزو مدينة سان ريمو للمرة الثانية، وتمكن من هزيمة أسطول إسباني إيطالي مشترك، قبل أن يتجه نحو مملكة نابولي ويشن عليها غارات عنيفة، ثم أبحر شمالا باتجاه جنوة، مهددا باجتياحها ما لم يتم الإفراج عن القائد البحري طرغود ريس، الذي كان قد أُسر في كورسيكا عام 1540.

وأمام هذا الضغط انتهت المفاوضات بالإفراج عن طرغود مقابل فدية قدرها 3500 قطعة ذهبية من نوع الدوقة، ولم تتوقف أدوار خير الدين باشا عند هذا الحد، فقد شارك لاحقا في صد هجمات إسبانية على السواحل الجنوبية لفرنسا، قبل أن ينهي مهمته العسكرية إثر توقيع الملك فرانسوا الأول معاهدة صلح مع شارلكان في سبتمبر/أيلول من نفس العام.

وفي طريق عودته شن بربروس غارة جديدة على سان ريمو في مايو/أيار 1544، قبل أن تبرم معه جمهورية جنوة اتفاقا تدفع بموجبه مبلغا كبيرا لوقف غاراته، ثم ظهر في يونيو/حزيران بأسطوله قرب جزيرة إلبا واحتل مدينة بيومبينو الواقعة على الساحل الإيطالي، وقصف حصنها مطالبا بإطلاق سراح ابن سنان ريس، الذي كان قد أُسر قبل سنوات وتعرض للتنصير، وتم الإفراج عنه بالفعل.

ولم يكتفِ بذلك، بل واصل بربروس غاراته على مدن مختلفة في إيطاليا، ثم هاجم سواحل سردينيا وخليج نابولي، وأجبر جيانتينو نجل أندريا دوريا على الفرار من أمامه بثلاثين سفينة لجأ بها إلى مسّينا، واختتم حملته بقصف استمر خمسة عشر يوما لقلعة مدينة قرب مسّينا أسفر عن تدميرها واحتلالها، قبل أن يعود إلى إسطنبول. وقد أكدت هذه الحملة دور الأسطول العثماني بوصفه ذراعًا ضاربة للدولة في المتوسط، وكرّست هيمنتها البحرية في مواجهة القوى الأوروبية.

وبعد هذا الفصل الأخير من مسيرته العسكرية والبحرية الحافلة قرر خير الدين باشا أن يتقاعد عام 1545م وهو في منتصف السبعينيات من عمره، وقرر الاستقرار في بيته الفسيح الواقع على ساحل بيوكديري شمال غرب البوسفور في إسطنبول، وبطلب من السلطان سليمان القانوني أملى مذكراته على البحار سنان مرادي ريس، فجاءت في خمسة أجزاء محفوظة في متحف طوب قابي ومكتبة جامعة إسطنبول، وقد نشرها لاحقا الباحثُ أحمد شيمشيرجيل، كما استُلهمت قصته في العديد من الروايات والأعمال الدرامية.

وفي 4 يوليو/تموز 1546م، توفي خير الدين باشا ودُفن في الضريح الذي بناه له المعمار الشهير سنان عام 1541م في منطقة بشيكتاش على الضفة الأوروبية من إسطنبول بعد خمسة عقود قضاها كلها في الدفاع عن المسلمين في غرب البحر المتوسط.

شاركها.
اترك تعليقاً