غزة- بينما كانت عبير نصر الله تسعى جاهدة لحماية أطفالها الأربعة برفقة زوجها، وسط مأساة النزوح المريرة في شمال قطاع غزة، وجدت نفسها على حاجز عسكري إسرائيلي وحدث ما كانت تخشاه.
نادى الجنود على الذكور البالغين (15 عاما) فما فوق، بمن فيهم زوجها نعيم، وجمعوهم في حفرة كبيرة أُعدّت مسبقا بواسطة الجرافات العملاقة. وأمروا الرجال بخلع ملابسهم، وأخذوا يستدعونهم في مجموعات تضم الواحدة منها 5 أفراد، وكلما تم استدعاء مجموعة، كانت عبير تتشبث بأمل أن يعود زوجها ليجتمع بها وبأطفاله.
مع مرور الوقت، بدأ الأمل يتضاءل حتى أدركت عبير أن نعيم (30 عاما) لن يعود معها، وأنها أصبحت أمام واقع ومصير مجهولين، دون أن تعلم إن كان حيا أو ميتا.
مصيدة كبيرة
يعمل نعيم بائعا في متجر بقوليات، وكانت الأسرة تقطن في منطقة تل الزعتر بمخيم جباليا، قبل أن تجبرهم قوات الاحتلال -التي بدأت هجوما دمويا على شمال القطاع بداية أكتوبر/تشرين الأول الجاري- على النزوح المتكرر.
وأسفر العدوان عن استشهاد وجرح وتشريد عشرات الآلاف من السكان. وأجبر الاحتلال المواطنين الذين دفعتهم المذابح للنزوح على العبور من حاجز تحول إلى مصيدة كبيرة، أسفر عنها اعتقال المئات.
وفي خيمة مؤقتة داخل مركز إيواء يفتقد إلى أبسط مقومات الحياة وسط مدينة غزة التي وصلتها بعد رحلة مريرة، تجلس عبير برفقة أبنائها تنتظر خبرا عن مصير الزوج المختفي قسرا.
بدورها، تتذكر الطفلة كوثر الدحنون (14 عاما) جيدا لحظة عبور الحاجز العسكري الإسرائيلي الذي أُجبروا على المرور منه من شمال القطاع نحو مدينة غزة. وتقول للجزيرة نت إن أباها وعمها كانا يجران الكرسي المتحرك لجدتها المقعدة على أرض رملية صعبة، وهو ما اضطرهم إلى رمي أغراضهم التي تضم فراشا وملابس لعدم قدرتهم على حملها.
وعند الحاجز، اعتقل الاحتلال والدها وعمها بينما بقيت جدتها هناك، إلى أن سمح لها بالمرور برفقة حفيدها المصاب الذي تمكن بصعوبة من نقلها إلى غزة. ومنذ ذلك الوقت، تعيش كوثر في خيمة بمدينة غزة بعد أن تمكنت من العبور على أمل أن يجتمع شملها بأبيها وعمها قريبا.
ويعمل والدها عنان الدحنون (45 عاما) حطابا، وهي مهنة انتشرت بسبب منع الاحتلال إدخال غاز الطهي لشمال القطاع منذ بداية الحرب.
مأساة
داخل خيمة خضراء بمدينة غزة، يجلس فايز المصري (57 عاما) حاملا عبء فقدان ابنه عمر (27 عاما) الذي اعتقله الاحتلال على الحاجز أثناء محاولته الهرب من جحيم الاحتلال شمال غزة. وبدأت مأساته عندما نزحت عائلته من بيت حانون أقصى شمالي القطاع إلى مخيم جباليا بحثا عن الأمان.
لكن العدوان الإسرائيلي لم يترك لهم مجالا للراحة حيث تنقلوا من مركز إيواء إلى آخر إلى أن وصلوا لمدرسة الفاخورة.
ويقول المصري للجزيرة نت “جاء الاحتلال، وأخذ النساء إلى مدرسة الكويت ونحن إلى حفرة، ثم عبرنا الحاجز المقام عند مستشفى الإندونيسي”. وبعد عبوره، اكتشف أن الاحتلال اعتقل عددا من المواطنين وكان ابنه من ضمنهم. ويستذكر “وضعونا في حفرة كبيرة كانت مليئة بالنفايات، وتعرضنا لإهانات شديدة وألفاظ بذيئة جدا مليئة بالشماتة، وكنا ننتظر أن يقتلونا، لم نكن نعرف ماذا يريدون”.
وفي مأواه الجديد، يملأ القلق قلب فايز على مصير ابنه عمر، لعلمه بما يتعرض له المعتقلون الفلسطينيون داخل سجون الاحتلال من تعذيب ومعاملة قاسية.
وفي الأماكن التي لجأ لها سكان شمال القطاع، لا تكاد تخلو عائلة نازحة من معتقل اختطفه جنود الاحتلال من بين ذويه عند الحاجز.
ويروي هاني الدريني قصته المريرة مع الحاجز بعد أن اعتقل الجنود 3 من أبناء أعمامه، وهم أسامة ورمزي وموسى. وعاش لحظات من الرعب بعد أن حوصر في منطقة “مشروع بيت لاهيا” لمدة 15 يوما، وسط قصف متواصل.
الإخفاء القسري
أما حسين نبهان الذي شهد اعتقال 10 من أفراد عائلته، فيروي تفاصيل المأساة التي عاشها، ويقول للجزيرة نت “أجبرونا على خلع ملابسنا، ودخلت علينا الطائرات الصغيرة (كواد كابتر) تطلب منا تسليم أنفسنا، وتم اقتيادنا للحاجز”. ويتحدث بمرارة عن اعتقال أفراد أسرته، ويوضح أن من بينهم طفلين، وهما إبراهيم (17 عاما) وياسر (15 عاما).
ويقول رامي عبده رئيس المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان إن ظروف العدوان لم تتح حصر أعداد المعتقلين بشكل دقيق، خاصة أن إسرائيل تمارس أسلوب الإخفاء القسري خلال الحرب، ولا تقدم أي معلومات حول الأسرى لديها. لكنه أوضح -للجزيرة نت- أن أعداد المعتقلين في شمال القطاع منذ الخامس من أكتوبر/تشرين الأول الجاري (أي منذ بدء الهجوم الأخير على هذه المناطق) لا تقل عن 600 معتقل.
ولفت عبده إلى أن قوات الاحتلال -في عدوانها الجاري في شمال القطاع- كررت استخدام أسلوب الحفرة الكبيرة التي يتم احتجاز المعتقلين فيها، سواء كانوا ذكورا أو نساء أو أطفالا، لساعات قبل أو بعد اقتيادهم للتحقيق والفحص الأولي، كشكل من أشكال الإهانة والترهيب.
ووفقا له، وثق المرصد حالات عديدة استخدم فيها جيش الاحتلال مدنيين فلسطينيين دروعا بشرية. ومن أشكال هذا الأسلوب إجبار المعتقل على ارتداء زي الجيش ووضع كاميرا مثبتة على رأسه، وإجباره على القيام بمهام تفتيش أو دخول منازل وأنفاق قبل وصول الجنود الإسرائيليين إليها.
وقال عبده إن تقديرات مؤسسته الحقوقية تشير إلى أن 10 آلاف فلسطيني تعرضوا للاعتقال في قطاع غزة منذ بداية الحرب، منهم نحو 4 آلاف عامل جرى الإفراج عنهم على دفعات.
وبشأن العدد الإجمالي للمعتقلين حتى الآن، ذكر أنه غير معلوم، نظرا لاستخدام الاحتلال أسلوب الإخفاء القسري ورفضه الكشف عن معلومات بشأنهم. وأوضح أن المُفرج عنهم من المعتقلين كشفوا عن “أهوال التعذيب التي تعرضوا لها والتي وصلت إلى حد قتل العشرات منهم”.
وأضاف عبده أن المرصد الأورومتوسطي وثّق “قتل ما لا يقل عن 60 أسيرا بعضهم في اليوم الأول للاعتقال، وبينهم طبيبان على الأقل”.